"حين يتحرر الإبداع من القيود الرقابية والسياسية والأمنية التى تحول دون وصوله إلى أهدافه المرجوة، تكون النتائج مؤثرة وإيجابية ورائعة" سيطر على هذا الشعور حال مشاهدتى للعرض المسرحى "قهوة سادة"، على خشبة مسرح مركز الإبداع الفنى التابع لصندوق التنمية الثقافية.
حيث استطاع المخرج خالد جلال تقديم تحفة فنية، استعرض فيها العديد من الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفنية والأدبية وغيرها، مستعينا بقدرات وطاقات 36 شاباً وفتاة تمكنوا من إدخال حضور العرض معهم إلى داخل اللوحات أو المشاهد منذ الوهلة الأولى حين خرجوا إلى ما يشبه المقبرة، يشيعون إليها زمن جميل، واضعين صوراً لبعض أصحابه ومنهم طلعت حرب ونجيب محفوظ وصلاح جاهين وسعاد حسنى وحليم وأم كلثوم وأفيشات عدد من الأفلام الخالدة، منها: "الناصر صلاح الدين" و"الزوجة الثانية" و"غزل البنات".
وكانت من أروع اللوحات تلك التى أقام فيها رجال الأعمال ـ فى إسقاط على الكثيرين ممن نسمع عنهم ولا تربطنا بهم أية صلات والحمد لله ـ ضريحاً فى منطقة القطامية، لتطأه أقدام أصحاب الحاجة منهم ليدعو أحدهم الله أن يهديه إلى الشكل النهائى للبيسين، الذى صممه فى الفيلا الخاصة به لحيرته بين تصميمه مستطيلاً أو مربعاً أو دائرياً، وآخر يتمنى أن يوفقه الله فى استكمال مجموعته الاستثمارية، حيث لم يتبق له سوى شراء الهرم وقناة السويس، وثالث يدعو أن يكسب الزمالك بعدما ساهم فى شراء دروجبا وصمويل إيتو وتيرى هنرى لينضمون إلى قائمة الفريق، ورابع يشكو من عدم معرفته بالمساحة الفعلية لأراضيه التى أرستها المزادات التى أقامتها الدولة عليه، وخامس يتمنى أن يطيل الله فى عمره ليتمكن من اللف فى قصره الذى لا يعرف أوله من آخره، وسادس يطلب توسيع مضيق بنما لا لشىء إلا أن سفينته محشورة فى مدخله، ولا تتمكن من المرور إلى الجانب الآخر.
لم يفت العرض الإشارة إلى قيام أصحاب القنوات الفضائية الخليجية بدبلجة المسلسلات الأجنبية بلهجات بلدانهم، وإصرارهم على فعل الأمر نفسه مع الدراما المصرية، بما فيها "رأفت الهجان" من خلال منتج خليجى يسعى إلى إنتاج مسلسل، يطلب فيه من الممثلين تغيير لهجاتهم إلى الخليجية، وتصل به الأمور "بجاحة" إلى محاولة تغيير وقائع تاريخية ثابتة، وكان للمطربين والمطربات الذين يحرصون على الغناء باللهجة الخليجية لا لشىء إلا نزولا على رغبة أصحاب رأس المال، نصيب أيضاً.
تناول العرض سيطرة عدد من منتجى المقاولات على سوق السينما، وقيامهم بفرض أبنائهم وأقاربهم على الأعمال الفنية التى يتولون إنتاجها، وحرصهم على التنصل من المواهب الحقيقية. مشاكل الشباب وعدم تمكنهم من الزواج لضيق ذات اليد والعجز فى توفير نفقاته، وغرق عدد منهم فى عرض البحر، أثناء محاولتهم الهجرة إلى دول أوروبا، وبيع بعض الآباء لأولادهم خوفاً عليهم من الزمن، وأزمة الخبز ورغيف العيش التى يعانى منها الناس ليل نهار، رغم التصريحات النارية من المسئولين، والتى غرقوا فيها بعد فشل حل الأزمة، وتأثير الظروف المالية سلباًَ على صلات الرحم بين الأهل والأقارب، والقبض على عدد من شباب الفيس بوك وقيام الأجهزة الأمنية بالتعامل معهم، وقدرتها بوسائلها المشهود لها بالكفاءة على محو ذاكرتهم إلا من معرفتهم الكاملة لأسعار السلع والخدمات، وفتوى رضاعة الكبير التى أحدثت ضجة فى الصيف الماضى عقب صدورها عن أستاذ حديث فى جامعة الأزهر، كل هذه الأحداث كانت حاضرة فى العرض فى إطار مشاهد تمثيلية نابضة.
فاجأتنى الجرأة الشديدة التى حظى بها العرض، رغم أنه يقدم على خشبة تابعة للدولة، وربما تكون هذه واحدة من السياسات المستخدمة للإصرار على أننا نعيش عصراً غير مسبوق من الحرية والديمقراطية "قولا لا فعلاً"، علماً بأن غالبية الأحداث باتت معروفة ومفضوحة أرضاً وجواَ وفضاء. كان التحدى الأكبر من وجهة نظرى فى الأفلات من تناول العرض لكل هذه الأحداث، والهروب بها من قالب تقريرى جاف، كما تطالعنا به الصحف إلى قالب نابض بالحياة والحركة المسرحية لحماً ودماً، وكأننا فى سرادق كبير نحتسى فيه "قهوة سادة" حداداً على الزمن الجميل. تمكن المخرج الموهوب خالد جلال من خلال الورشة الفنية التى أقامها فى المركز، أن يرصد لنا أحداث قرن كامل بحلوه ومره فى ساعة ونصف الساعة فقط، مرت وكأنها دقائق قليلة.