فى بيروت، حيث تشتعل النيران تحت المشهد السياسى الهادئ، شاركت منذ أيام فى مؤتمر حول "الإعلام والحوار الإسلامى المسيحى فى المنطقة العربية"، نظمته مجلة "آفاق الجامعية"، وهى مطبوعة فكرية رصينة، تجتذب منذ عقود أقلاماً إصلاحية، ومبدعة، تتحدى الثوابت غير المبررة.
فى الحالة المصرية، تبدو وسائل الإعلام بعيدة كل البعد عن حالة الحوار الإٍسلامى المسيحى، فيما يعرف فى لبنان بالعيش المشترك. بنظرة إجمالية، يمكن القول إن وسائل الإعلام تتراوح - فى مجملها - بين جمود التعبير عن العلاقات الإسلامية المسيحية، من خلال التمحور الشكلى حول مفهوم "الوحدة الوطنية"، وبين الإثارة غير المحسوبة، من خلال وضع الملف الدينى فى قالب مثير لا يختلف فى كثير أو قليل عن الإثارة الجنسية أو السياسية. المناقشات المعمقة حول ارتباط الشأن الدينى بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية فى المجتمعات غير وارد فى الإعلام المصرى، خاصة الصحافة.
فى السابق كان الأقباط يشكون من عدم اهتمام الإعلام بهم، اليوم، أتصور أن المشكلة تكمن فى اهتمام الإعلام المفرط بهم، بشكل لا يدعم اندماجهم فى المجتمع، بل يجعل منهم موضوعاً للإثارة، والجدل لا أكثر.
وهنا سوف نجد العديد من الصور:
1- الشكل الاحتفالى
الحوار الإسلامى المسيحى يقدم أحياناً، ولاسيما فى الصحف القومية، على أنه تعبير عن وشائج تاريخية عميقة الجذور بين المسلمين والأقباط لا يمكن المساس بها، وهى أقوى من أى مؤامرة تسعى للنيل منها. تتجدد فى مظاهر احتفالية فى الأعياد، ومبادلة التهانى، والمناسبات الوطنية العامة، وعادة ما يتردد أن المجتمع لا يعانى من مشكلات طائفية، وما يثار من آن لآخر فى هذا الموضوع، هو تعبير عن استهداف من قوى الخارج لا أكثر.
2- المؤامرة الكونية.
هناك صحف تروج أن هناك مؤامرة كونية أمريكية على العرب والمسلمين، انطلاقاً من مقولات مسيحية فى الأساس. ومن البديهى أن تترك هذه المعالجات الإعلامية تأثيراً على علاقات المسلمين والمسيحيين فى المجتمع المصرى. خذ مثالاً على ذلك الجدل الذى رافق الحرب الأنجلو-أمريكية ضد العراق. فقد اتجهت الصحف ذات الاتجاهين القومى العربى والإسلامى إلى اعتبار ما حدث فى العراق، يمثل مواجهة بين الغرب المسيحى والشرق الإسلامى. وأصبح هناك قاسم مشترك فيما بينها هو تديين الصراع العالمى، والنظر إلى الكثير من الصراعات الإقليمية على أنها جزء من مؤامرة عالمية، تستهدف العرب والمسلمين. وظهرت فى خلفية صورة الرئيس الأمريكى جورج بوش صورة السيد المسيح فى صدر الصفحات الأولى لهذه الصحف. وهكذا أصبح المتغير الدينى هو الرئيسى فى تحليل المتغيرات العالمية فيما تنشره الصحف السيارة، التى لا تتناول الموضوع بعمق، بل تعمد إلى الإثارة ودغدغة غرائز مجتمع سياسى غير ناضج. وتصدرت الصحف عناوين ومانشيتات من قبيل:
"مؤامرة أمريكية لهدم الكعبة"، و"الحرب الصليبية باتت على الأبواب"، و"الحرب الصليبية والعجز العربى"، و"بوش الشرير يرفع شعار الصليب قبل أن يشعل العالم"، و"الأزهر يدعو إلى الجهاد ضد الولايات المتحدة الصليبية"، و"الله أكبر. أشقاؤنا يذبحون وحكامنا صامتون"، "بعثات تبشيرية بدأت عملها فى العراق المحتل"، و"حملات تبشيرية لتنصير الشعب العراقى" "رامسفيلد يغير القرآن". هذه المعالجات الصحفية التى تربط بين ما هو سياسى، وما هو دينى فى خليط تغلفه نظرية المؤامرة، يلقى ظلالاً كثيفة على العلاقات الإسلامية المسيحية فى المجتمع، ويشكل فى بعض الأحيان رسائل تحريضية ضد الآخر الدينى. وأكثر من ذلك أنه يربط ما يحدث على صعيد العلاقات الإسلامية المسيحية فى المجتمع من توترات بصراع عالمى ممتد، وبالتالى تسود نظرة مفادها أن المسيحى المصرى على أنه أقرب فى مشاعره ومواقفه إلى المسيحى الغربى منه إلى شريكه المسلم فى المواطنة. تكرر هذا الخطاب خلال أزمة الرسوم الدنماركية الأولى والثانية، ومحاضرة البابا بنديكت. الربط بين ما يحدث على صعيد العلاقات الإسلامية المسيحية فى السياق المصرى، وما يحدث من متغيرات عالمية يؤدى إلى أمرين: الأول رهن النزاعات المحلية -وليدة الواقع وظروفه ويمكن حلها محلياً- بالتطورات الدولية، التى تتعقد فيها العوامل وتتشابك المتغيرات. أما الأمر الثانى: تعقيد مسار العلاقات الإٍسلامية المسيحية لارتباطها بمتغيرات دولية، وتحويل الشأن الداخلى إلى شأن خارجى.
3- صناعة الهزيمة.
هناك أقلام وصحف تحاول نزع العلاقات بين المسلمين والأقباط، من سياقها الطبيعى، أى المواطنة، وتحويلها إلى منازلة بين فريقين، يسعى كل منهما للفوز على الآخر فى سياق مناخ تنافسى وهمى على أساس دينى. تحول مسيحى إلى الإسلام، أو تحول مسلم إلى المسيحية لا يناقش فى غالب الأحيان على أرضية حرية الاعتقاد أو الاختيار الشخصى أو القانون، ولكن انطلاقاً من كونه تعبيراً عن "تنافس" بين فريقين. وعادة ما تكون صناعة الهزيمة فى أحد المواقف، مقدمة لأزمة لاحقة فى العلاقات الإسلامية المسيحية. واللافت أن هناك أقلاماً تتحدث بصورة شبه ثابتة عن أن "المسلمين" مهزومون فى المجتمع، وأقلام أخرى تتحدث عن أن "المسيحيين" مهزومون فى المجتمع، وكأن الصراع فى المجتمع دينى، وليس سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، وهو أمر لا يمكن القبول به، لأن التمايز فى المجتمع الحديث ليس دينياً، إسلامياً ومسيحياً، لكنه سياسى واقتصادى وثقافى، تتعلق بالمصالح، وأنماط المعيشة، والعلاقات الطبقية.
4- المشكلات الطائفية.
الحديث عن الهموم القبطية لم ينقطع منذ مطلع القرن العشرين فى الصحافة. هناك صحف تتناول هذه المشكلات من منطلق الحرص على تحقيق المساواة فى المواطنة، وهناك صحف أخرى تتخذ منها مادة للإثارة. وهذه المنابر الإعلامية - تحديداً- لا تتناول هذه المشكلات، انطلاقاً من الحرص على تحقيق المواطنة الكاملة لكل المجتمع، من مسلمين ومسيحيين، مؤكداً حق الجميع فى المساواة، ولكن لتأجيج الشعور الطائفى من خلال ترويج أفكار من قبيل "الاستقواء القبطى بالخارج"، وكلما سعت الدولة لحل هذه المشكلات، أو التخفيف من وطأتها، اتهمت من قبل بعض الأقلام بالرضوخ للضغوط الخارجية. وهل يمكن أن نتهم الدولة أو أى طرف سياسى بالرضوخ للضغوط الخارجية، إذا انحاز لخيار المواطنة والمساواة؟
5- السجال العقيدى
هناك اتجاه يسود المجتمع المصرى منذ فترة يتسم بنزوع شديد نحو السجال الدينى. يتمثل هذا الاتجاه فى الخوض فى عقائد الطرف الآخر، علنا وبقدر كبير من النقد والتطاول. يمثل ذلك تراجعاً عن خبرة الحوار الإٍسلامى المسيحى فى مصر، التى لم تعرف مثل هذا اللون من المساجلات العقيمة، وتمحورت فى أغلب الأحيان حول مفاهيم المواطنة، والديمقراطية، والعمل المشترك. وإن كان السجال العقيدى- فى غالب الأحيان- يجرى فى صحف دينية، إسلامية ومسيحية، إلا أنه عرف طريقه إلى الصحف العامة، وبخاصة فى لحظات التوتر الكونى، كما حدث فى أعقاب أزمة رسوم الكاريكاتير الدنماركية ومحاضرة البابا بنديكت، كل ذلك أعطى مساحة حركة لأقلام تشجع على السجال الدينى فى الصحف العامة تحت لافتة مواجهة الغرب. وفى كثير من الأحيان تكون المساجلات الصحفية انعكاساً لحالة من السجال الدينى العقيدى على القنوات الفضائية، التى تتمتع بمساحات أوسع من الحرية، مثلما يحدث فى قنوات من قبيل "الحياة"، و"الناس"، وغيرها، الأمر الذى يفتح الباب أمام مزيد من الإساءة المتبادلة على الجانبين، المسيحى والإٍسلامى.
هذه الأساليب المختلفة للتناول الإعلامى للملف الدينى، تمثل فى ذاتها تراجعاً على خبرة الحوار الإسلامى المسيحى، على نحو يجعل منه موضوعاً صراعياً، أكثر من كونه موضوعاً للتلاقى والحوار فى المجتمع. هذه هى المشكلة الحقيقة فى التناول الإعلامى، حين يصبح الدين للصراع وليس للتكوين.