أخشى أن يصل الحال بالتليفزيون المصرى إلى مرحلة تسول المشاهدين، بعد أن تعمقت الفجوة بينه وبين المشاهد الذى هرب بلا عودة إلى فضائيات عربية ومصرية، أكثر حرفية فى تناول قضاياه ومشاكله اليومية.
قبل أيام كنت فى زيارة إلى قريتى فى ريف الدقهلية .. طوال فترة الزيارة تعمقت لدى حقيقة العزلة القائمة بين التليفزيون المصرى والمواطنين، الذين أصبحوا يشعرون أنهم وهمومهم اليومية فى واد والتليفزيون وبرامجه فى واد آخر ..لم أقابل قريب أو زميل دراسة إلا وناقشونى فى مضمون البرامج التى تبثها القنوات الإخبارية العربية والفضائيات الخاصة ..انتظرت أن يحدثنى أحدهم عن قضية مهمة أثارها التليفزيون المصرى أو إحدى قنواته العديدة، لكن ذلك لم يحدث ..المفاجأة أن أغلب الناس توقفوا تماما عن مشاهدة القنوات المصرية .ليس هذا فقط بل صارحنى بعضهم بأنه ثبت عدد من القنوات الفضائية ما بين إخبارية ومتنوعة، يتنقل بينها فى أوقات المشاهدة باعتبارها تلبى رغباته وتحقق له ما يبحث عنه.
أحاديث بسطاء قريتى نبهتنى إلى قضية أثارها معى عدد كبير ممن أعرفهم فى قطاعات التليفزيون المختلفة، لاسيما قطاع الأخبار..ففى هذا القطاع جرى تجميد قسم كبير من مقدمى البرامج ..هؤلاء المجمدون تم إدخالهم فى "فريزر" القطاع منذ أكثر من ثلاثة أعوام، وحل محلهم طواقم عمل جديدة أكثر انسجاماً مع القيادة الحالية.
اللافت أن المجمدين يتقاضون رواتبهم المتواضعة، ويذهبون بشكل يومى إلى مكاتبهم بدون أن يمارسوا أى عمل يذكر ..قسم آخر تم التخلص منه بطريقة لطيفة، من خلال نقلهم إلى "جراج" القنوات المتخصصة، هؤلاء كانوا أكثر حظا من القسم الأول، لأنهم نجحوا فى البحث عن ثغرة يمارسون فيها مهامهم الوظيفية، ويحققون طموحاتهم العملية من خلالها. فى ظل هذه الأوضاع فاجأتنى زميلة فى صحيفة قومية بأنها تلقت مؤخرا اتصالا من مسئول كبير فى قطاع الأخبار، يعرض عليها أن تقدم فكرة برنامج، كما يحلوا لها سواء إعداد أو تقديم كمدخل لعلاقة تعاون مهنى، يرغب المسئول الكبير أن يقيمها معها ..الطريف أن الزميلة "المهمة" لم يسبق لها العمل فى هذا المجال من قبل، ولا تمتلك أى خلفية عن طبيعة العمل الإعلامى على الشاشة.
أعود إلى المجمدين فى قطاع الأخبار، أغلب الظن أن بعضهم يستحق التجميد وبعضهم الآخر، كان محسوبا على مرحلة سقط فيها القطاع فى مستنقع الفساد والابتزاز المعروف اختصارا باسم "الزيس"..هذا الزيس الذى نجحت أجهزة رقابية، فى محاصرته وملاحقة رموزه الرئيسية والزج بهم فى السجون ..الآن يتخوف البعض من عودة "الزيس" مرة أخرى ..هذه المرة يتخذ الفساد صوراً مبتكرة بعضها فى شكل علاقات "مشبوهة"، والبعض الآخر عبر مجاملات وتربيطات وشلل نتيجتها الطبيعية هو انهيار التليفزيون الرسمى، ودخوله فى مزيد من العزلة عن قضايا المشاهد الذى ضاع أمله فى وجود إعلام رسمى حقيقى.
بعيداً عن تقارير الأجهزة الرقابية التى تتحدث عن تصاعد وتيرة الفساد، وإهدار المال العام فى ماسبيرو على تجديد المكاتب وشراء السيارات الفارهة والبدلات و..و ..هذه الملايين التى يدفعها المواطن بلا مقابل، تمثل نزيفا مستمرا لموارد مهدرة تذهب إلى جيوب حفنة من المستفيدين. أتصور أنه إذا كان هناك ضرورة للإبقاء على التليفزيون الرسمى، فالأولى أن يتم دراسة التجربة البريطانية فى إدارة هيئة الإذاعة البريطانية، التى تعد واحدة من المدارس الإعلامية العالمية الرائدة فى إدارة الدول لأجهزة الإعلام الرسمية، على أمل أن نوقف الاتساع المستمر للفجوة بين المشاهد المصرى والإعلام الرسمى، قبل أن يأتى اليوم الذى يعلن التليفزيون على شاشته، عبارة مشاهد لله يا محسنين !!.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة