خالد الشريف

المسيرى .. ليلة بكى فيها الوطن!

الخميس، 10 يوليو 2008 12:41 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الناس موتى..وأهل العلم أحياء"...مقولة عتيقة تبين حقيقة هذه الحياة، وأنها مهما امتدت واتسعت بين يدى الإنسان، فإنها منتهية، إلا أن هناك أناسا وصلوا أسباب الحياة بأسمائهم، حتى بعد رحيلهم؛ لأنهم كانوا زمنا فى الزمن، وحياة فى الحياة، تألقًا وتوهجا بالفكر، وسموا بالعلم..فتمر عليهم السنون والقرون، ومازالت أسماؤهم دائرة على حوافِّ الألسن، محفوفةً بالثناء والإجلالِ والدعوات..وهناك من انكفئوا على أنفسهم الفانية، ورغباتهم اليابسة المتلاشية، فانطمست بغيابهم معانى أسمائهم، وارتحل برحيلهم عن الحياة ذِكْرُهم؛ لأنهم لم يعيشوا لأمتهم، بل لذواتهم، ولم ينطلقوا من أبعاد شخوصهم إلى معاناة الناس..فالناس ينسون من لم يَعِشْ لهم، وتسقط من العقول أسماءٌ لم تُفِدْهَا شيئا..

والدكتور عبدالوهاب المسيرى طراز فريد من أولئك المفكرين الذى عاشوا لأمتهم، فكان دائما حاملاً هموم وطنه على كتفيه، ليس من خلال قلمه وحسب، وإنما بالنزول من برج المفكرين العاجى إلى ساحة المظاهرات والاعتصامات، التى تصل إلى المواجهة أحيانا مع ضباط الأمن وجنوده؛ ليدافع عن الحريات، وعن حقوق البشر فى المأكل والمشرب، والممارسة السياسية، منددًا بالتوريث، مطالبًا بالعدل والإنصاف لأمته، متمنيًا أن يموت شهيدا فى ساحة النضال، بدلاً من الموت تحت سياط المرض على السرير بين الأهل والأبناء .

هذا الرجل الفريد، الذى لم يقعده المرض ولا السن عن الخروج إلى المظاهرات وسط مئات المواطنين البسطاء، ولم يكتفِ بذلك، بل تولى قيادة حركة كفاية ضد الظلم، والفساد، والتوريث، والاستبداد. لذلك لا تعجب إن قلت: "إن تراب هذا الوطن بكى لفراق المسيرى، وحزن لموته". فلطالما دافع المسيرى عن هذا الوطن، وأحبه، وعشقه، وقضى وقته وحياته مناضلاً ومدافعًا عن بلاده وأمته..

نعم.. بكاه العرب من المحيط إلى الخليج، وبكته فلسطين التى أجهد عقله فى الدفاع عنها؛ فقد كان المسيرى قامةً فكرية يحبها كل عربى مخلص، حتى صار بيته فى مصر الجديدة قبلةً لكل زائر لمصر..وكنت أشعر بالفخر عندما اتصل بى بعض الأشقاء العرب، وطلبوا أن أرتب لهم موعدا لزيارة المسيرى؛ لينهلوا من علمه وفكره، ويستفيدوا من تجربته العلمية.

لذلك نستطيع القول: إن المسيرى لم يمت فقد ترك من خلفه آثارًا حيةً تنطق باسمه، وتدل على عبقريته، فهو حَى بتراثه وفكره، ومواقفه وكتبه، ويكفيه موسوعته الشهيرة "اليهود واليهودية والصهيونية"، والتى صدرت عن دار الشروق فى ثمانية مجلدات، أنفق فيها المسيرى خمسة وعشرين عامًا من عمره ووقته وراحته، من أجل أن يوضح للأمة المشروع الصهيونى، ويفك الاشتباك بين اليهودية "كدين"، والصهيونية كـ"مشروعٍ سياسى عنصرى"، وليثبت أن المشروع الصهيونى ليس إلا مشروعًا وظيفيًّا للمشروع الغربى الاستعمارى، الذى يسعى لتمزيق الأمة العربية، ومنع قيام أى مشروعٍ حضارى فى المنطقة على أساسِ الإسلام أو العروبة.

ستظل هذه الموسوعة، وغيرها من الكتابات العميقة علامةً بارزةً فى حياتنا الفكرية، وستبقى مَرْجِعًا أساسيًّا مهما امتدت الأزمان لفهم الصراع العربى الإسرائيلى، وكشف أبعاد الفكر الغربى، وأطروحاته الفلسفية التى بهرت الكثير منا، وحرفتهم عن المسار الفكرى الصحيح.

وكان من أهم ما يميز كتابات المسيرى عليه رحمة الله: أنها خرجت من وعاء رجل خبير، عاش ما كتبه، وعاينه، وعاصره، واطلع على أنساقه الفكرية، وسياقاته العقلية، فجاءت كتاباته هادئةً هادفة، موجزة مميزة، تتسم بالعمق والدقة، والتحليل الموضوعى للظاهرة المدروسة، بعيدًا عن الانفعالات الصاخبة، والنظرات المسبقة، مما مَثَّل دعمًا هائلا للثقافة العربية الأصيلة، التى تمتد جذورها فى حضارة أمتنا التى يراد لها أن تجلس خلف الأمم! رحم الله الدكتور عبد الوهاب المسيرى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، إنه ولى ذلك، والقادر عليه.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة