زرت باريس عدة مرات، ودائما كنت أراها جميلة، فى كل شىء: فى مبانيها وشوارعها، وفى سكانها الذين انعكست حالة الجمال هذه على أخلاقهم، وسلوكياتهم وحتى وجوههم، أو هكذا رأيتهم. آخر مرة زرت فيها باريس الشهر الماضى كان الأمر مختلفا تماما، حيث قضيت يوما قاهرى الملامح فى باريس، كان يوما خانقا، ارتفعت فيه الحرارة إلى الدرجة التى لم ينجح فيها تكييف السيارة فى تلطيف الجو، وكانت الشوراع مصابة بحالة شلل تام، واجتزت شارع "الشانزليزيه" فى أكثر من نصف ساعة، فى الوقت الذى كنت أجتازه فى الظروف العادية فى أقل من خمس دقائق فى أوقات الذروة . ولم تنجح كل محاولات السائق فى الهروب من أى شارع جانبى لنلحق بالموعد المحدد الذى سنلتقى فيه فاروق حسنى وزير ثقافة مصر، الذى ذهب لزيارة فنان مصر المخرج الكبير يوسف شاهين، الذى نقل فى حالة غيبوبة إلى المستشفى الأمريكى بباريس، ولأول مرة أشاهد فى شوارع باريس من يشيح بيده لسائق سيارة أخرى، بل ويسبه، ولأول مرة أيضا أشاهد عسكرى المرور وهو يحاول فض الاشتبالك بين السيارات التى تداخلت مع بعضها البعض إلى الحد الذى لم يكن فيه مكان للمشاة للمرور.
ولم يكن من الصعب على أو على من زار باريس من قبل أن يعرف أن هناك بالتأكيد شيئا غير طبيعى، ففى ذلك اليوم أعلن عدد من المسئولين عن مترو الأنفاق السريع عن إضراب جزئى فى عدد من خطوط المترو، وهو ما يعنى خروج عشرات الآلاف الذين يتحركون تحت الأرض إلى فوق الأرض ليستخدموا سياراتهم الخاصة، أو وسائل النقل العامة العادية، وزاد من حدة الأزمة أن أصحاب الشاحنات، وأصحاب سيارات الإسعاف الخاصة قرروا هم أيضا تفيذ إضراب فى نفس الوقت وأغلقوا عددا من الطرق، منها مقر وزارة الصحة الفرنسية إلى الحد الذى اضطرت معه الوزيرة الفرنسية أن تدور حول المكان عدة مرات دون جدوى، وعندما فشلت عادت إلى بيتها.
مادعانى إلى تذكر هذه القصة ، هو أننا ونحن قاب قوسين أو أدنى من تطبيق قانون جديد للمرور فى مصر، يجب بداية أن نوفر ونيسر الطرق والوسائل التى تدعو وتدفع الناس للانضباط وبعد ذلك يمكن أن نوقع عقاب المجتمع على من يخرج على القانون، أما أن تشدد العقوبة ولا توفر لصاحب السيارة الوسيلة التى يقود بها سيارته بالتزام، فسوف يبقى الأمر مجرد حبر على ورق، وسوف يفتح القانون بعد تشديد العقوبات الباب لضعاف النفوس لمزيد من التحايل وملىء الجيوب بالرشاوى، ثم لاشىء بعد ذلك .. بالعقل وفروا للناس الأماكن التى يستطيعون فيها إيقاف سياراتهم، وبعد ذلك من يقف فى الممنوع "اقطعوا رقبته"، وهذا الأمر يحتاج إلى إجراءات جذرية تظهر فيها سيادة الدولة من قبيل نزع ملكية بعض الأماكن، وتحويلها إلى أماكن للانتظار والأهم أن تكون بأسعار معقولة، هذا الأمر مهما كلف، فلن يعادل الملايين التى نهدرها فى الشوراع المغلقة كل يوم! يكفى أن أقول إنك عندما ترخص سيارتك فى اليابان، فأنت مطالب أن تقدم ضمن الأوراق صورة مشفوعة برسم مساحى للمكان الذى سوف تنتظر فيه السيارة، هكذا يفكرون، أما عندنا فى مصر فعشرات الآلاف من السيارات يتم ترخيصها سنويا ولا نعرف أين تسير وما الشوارع التى يمكن أن تستوعبها أو أين تقف؟!.
كما فعلت وزارة المالية، لجأت وزارة الداخلية إلى استخدام سلاح الإعلام لإقناع الناس بالانصياع للقانون الجديد للمرور، فهل يكفى "المكياج" لتجميل واقع الشارع المصرى الذى يتميز بالقبح والدمامة، أم أن الأولى أن نجرى جراحات لتغيير هذا الواقع ثم نجمل ونقنع الناس بالالتزام .ثم هل يكفى تغليظ العقوبة كأداة وحيدة للقضاء على كل مظاهر السلبية فى الشارع حتى أصبح مجرد سيرك، الشاطر فيه هو الذى يصل إلى مقصده بأية وسيلة، حتى لو كسر فى طرقه كل إشارات مصر، أو سار عكس الاتجاه فى كل الشوراع، معرضا نفسه والآخرين لخطر حقيقى، كل هذا يبقى غير مهم، الأهم هو الوصول ولو على جثة الآخرين، فهذا شعار الشارع والمرحلة. وفروا البديل إذا كنتم حقا تريدون فرض النظام والانضباط على الشارع المصرى، وإلا فلن تصلح كل قوانين الدنيا فى إصلاح الواقع الهزلى للشارع المصرى، القانون الجديد وحده فى رأيى هو بمثابة سير عكس الاتجاه!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة