العاصمة السودانية الخرطوم تحولت فى الأيام الأخيرة إلى حائط مبكى عربى.. توافد عليها أصحاب الحناجر ومحترفو الشعارات من كل العواصم، ليس لدعم السودان، بقدر تحقيق مكاسب ومنافع يعرفون جيدا كيف يحصلون عليها فى مثل هذه الظروف.. فهؤلاء ينتظرون الجنازات العربية - ما أكثرها- ليشبعوا فيها لطما للخدود وشقا للجيوب، بعد أن منحوا عقولهم إجازة مفتوحة واستسلموا تماما لنظرية "المؤامرة " التى صارت شماعة سهلة يعلق عليها العرب خيبتهم الثقيلة وتخلفهم الدائم عن اللحاق بباقى أمم وشعوب المعمورة.
شعارات هؤلاء "الهتيفة " مازالت تصم آذانى وهم يرددون "بالروح بالدم نفديك ياصدام"..صورهم الغاضبة لم تفارق خيالى وأنا أتابع نشاطهم "الحماسى" للدفاع عن الرئيس البشير وتوجيه الاتهامات للمدعى العام فى المحكمة الدولية "أوكامبو"..تصرفاتهم الغريبة أثارت بداخلى التشاؤم والقلق على مستقبل السودان الشقيق.أفكارهم الخرقاء واقتراحاتهم الوهمية وشعاراتهم الخادعة بل وأصواتهم الصاخبة، أصبحت نذير شؤم لا بشير خير تنشر الفزع والرعب فى كل مكان.
المعالجة السودانية للكارثة جاءت عصبية تنقصها الحكمة والخبرة..المحزن أنها ذكرتنى بالمعالجة العراقية للتهديدات الأمريكية بغزو العراق..السودان الرسمى اعتمد على أسلوب الحشد والتعبئة للظهور بمظهر المحتمى بشعبه ضد "الهجمة" الخارجية، هذا الأسلوب العربى التقليدى فى التعامل مع المخاطر لم يعد فعالا فى ظل تحولات دولية جديدة تدرك تماما أن تحريك الشارع عادة "عربية" يلجأ إليها الحكام وقت اللزوم كغطاء لإخفاء واقع سياسى مرير تعيشه شعوبهم.
وقد جمعتنى جلسة خاصة مع وزير سودانى.. سألته عن الخطوات المحددة التى تنوى حكومته التحرك من خلالها لمواجهة "شبح "الفوضى الذى يطل برأسه على السودان الممزق..الوزير راوغ وهرب من الإجابة على سؤالى، وراح الوزير ينصت بإعجاب إلى "حنجورى" شهير تخصص "دفاع "عن الحكام العرب، فقد سبق أن شكل لجنة قانونية للدفاع عن صدام حسين، ثم سمعته بأذنى يقول للرئيس بشار الأسد: سنمنعك بالقوة من الاستجابة لطلب التحقيق الدولى فى قضية اغتيال رفيق الحريرى.
جلجل صوته الهادر القاعة الهادئة التى كانت تجمعنا، وقال "انتهينا بعون الله من إعداد هيئة للدفاع عن الرئيس البشير"..هنا قلبى كاد أن ينخلع من مكانه عندما أكمل قائمة الاقتراحات التى تضم تشكيل محكمة شعبية عربية للمدعى العام فى المحكمة "أوكامبو"، ودعوة الدول العربية والإسلامية للانسحاب الجماعى من المحكمة فورا..الحنجورى العظيم أنهى كلامه الحماسى بتوجيه نداء إلى الأردن "باعتبارها البلد العربى الوحيد العضو بالمحكمة " بتعليق عضويتها فيها مقابل سحب المحكمة مذكرة اتهام البشير.قبل أن ينتهى من عرض اقتراحاته "الساذجة" التقط الخيط حنجورى آخر، وقدم قائمة لا تقل "استخفافا "عن قائمة نظيره الأول..القائمة الثانية اقترحت تنظيم مظاهرات حاشدة فى كافة العواصم العربية فى وقت واحد تحمل صورة "أوكامبو" وعليها علامة "X".ثم عقد سلسلة من الندوات والمؤتمرات الجماهيرية لتوعية المواطنين فى الدول العربية بالخطر الذى ينتظرهم عبر بوابة "أوكامبو"..فى زحمة الحماس نسى الجميع البحث عن حل فورى لإنقاذ أكثر من 3 ملايين ينتظرون الموت جوعا وعطشا وسط رمال دارفور !!.
الذى لا يعرفه أغلب أصحاب الشعارات الجوفاء أن السبب الذى دفع "أوكامبو" لاستهداف الرئيس السودانى هو رفضه المطلق الاستجابة لقرار المحكمة السابق الخاص بتسليم مواطنين سودانيين للتحقيق معهما أمام قضاة المحكمة فى اتهامات بارتكاب جرائم إبادة بحق سكان إقليم دارفور، أحد المتهمين هو أحمد هارون وزير دولة للشئون الإنسانية، وعلى كوشيب قائد ميلشيا محلية مدعومة من الحكومة السودانية..بالطبع يجب أن تعترف السلطات السودانية بالإهمال فى الاستخفاف بالاتهامات التى مضى عليها أكثر من عام وعدم الدخول فى مفاوضات لحسم تلك القضية، واختارت الدخول فى تحدى مع المحكمة حتى وصل الأمر إلى هذه المرحلة المعقدة، وتم توريط البشير نفسه فى التستر وحماية المتهمين.
أتصور أن تحول الخرطوم إلى حائط مبكى للمزايدين وأصحاب المصالح من كل التيارات أمر يضر أكثر مما ينفع، ولن يخرج هذا البلد الشقيق من مأذقه الخطير، لأن التعامل بعقلانية هو الطريق الوحيد، ليس فقط لحل أزمة دارفور بل لإنهاء حالة التمزق الداخلى التى تعانى منها كافة ربوع السودان.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة