لقد كان عميد الأدب العربى د.طه حسين، على حق عندما كتب ذات مرة يقول: "لماذا نخاف من البحر المتوسط، إنه بحرنا كما هو بحر الأوروبيين"، ولعله كان يرد بذلك على أولئك المتوجسين من كل ما يأتى من دول الشمال من أفكار أو نظريات أو بشر، وكان هؤلاء روجوا أن البحر المتوسط لم يحمل لنا عبر العصور سوى الاستعمار، والانتداب، والحروب الصليبية!ولعل هذه القناعة التى كانت تملأ رأس عميد الأدب العربى، هى التى دفعته دفعاً إلى التحمس لثقافة حوض البحر المتوسط، التى حاول أن يرصد ملامحها فى أكثر من مؤلف، لعل أبرزها كتاب "مستقبل الثقافة فى مصر"، حيث ركز على أهمية حوار الضفتين، وعلى أن هذا البحر هو جسر اتصال، وليس حاجز انفصال.
وكلنا يعرف أن هذه الفكرة ــ تحديداً ــ أثارت لغطاً قوياً فى الأوساط الأكاديمية، لكن بقى مخزوناً فى الذاكرة المصرية أن حوض البحر المتوسط هو فضاء حضارى "وثقافى" أكثر منه أى شىء آخر، وأن مصر ـ من الناحية الجيواستراتيجية ــ وبروزها كدولة "وحكومة مركزية" عبر القرون تحتل موقعها كقاطرة لدول جنوب المتوسط فى مواجهة دول شمال المتوسط، ولذلك كان طبيعياً أن تتكرس "كينونة" مصر فى قلب هذا التجمع، الذى أخذ عبر العصور أشكالاً مختلفة، لعل أكثرها رواجاً من الناحيتين السياسية والاقتصادية، مشاريع التعاون الأورومتوسطى التى يجسدها ــ بعمق ــ مشروع "عملية برشلونة" الذى انطلق فى عام 1995 لإحياء ـــ بشكل ما ــ جولات الحوار العربى ـــ الأوروبى، التى ظهرت عقب حرب أكتوبر 1973، ثم تعثرت بعد ذلك.
المهم أن مصر احتفت بهذه المشاريع جميعاً، وما كان لها أن تفعل غير ذلك، باعتبار أنها معنية بمستقبل المنطقة والحوار مع دول الجوار، حواراً يضمن التوافق لا التفريق والتكامل لا الانفصال أو الاستبعاد. ومعلوم أن مصر التى تعتبر من العُمد الأساسية للتعاون الأورومتوسطى والمؤسسين الفاعلين فى عملية برشلونة كانت، ولا تزال تحرص على تقديم أفكار جديدة لتفعل دوائر الحوار، وأحسب أن ذاكرة الوطن لا تزال تحتفظ بصولات وجولات لوزراء خارجية مصر أمثال د.عصمت عبدالمجيد الذى وقف ذات مرة، فى أحد الاجتماعات التى احتضنتها مدينة مرسيليا فى جنوب فرنسا، يصحح مجموعة من الأخطاء التى جاءت على لسان عضوة فرنسية فى البرلمان الأوروبى، وأذكر ــ وقد كنت شاهد عيان ــ أن هذه السيدة صعدت على المنصة وقدمت اعتذارها لوزير خارجية مصر، وشكرته لأنه صحح لها أفكاراً كثيرة مغلوطة كانت تعرفها عن العرب والمسلمين فى جنوب المتوسط، أما المعارك الوطنية والقومية التى قادها السيد عمرو موسى وقت شغله منصب وزير الخارجية، فكانت تتصدر الصحف الأوروبية، خصوصاً عندما رد على خافيير سولانا منسق السياسة الخارجية الأوروبية، بشأن الفصل بين ما يحدث فى عملية السلام "مداً وجزراً" وما يحدث فى إطار عملية برشلونة، وأشهد أن صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية كتبت وقتذاك فى صفحتها الأولى، قول وزير خارجية مصر "إن أوروبا لا يجب أن تظل فى مقعد المتفرج مدى الحياة!"، فى إشارة إلى أن دورها فى عملية السلام هو دور هامشى، بينما تريد أن تستأثر بالكعكة الاقتصادية عبر التعاون الأورومتوسطى.
وأحسب أن دور وزير الخارجية الحالى أحمد أبوالغيط، يندرج فى الإطار نفسه، بتصريحاته الرنانة التى أكد فيها أن مصر ستتجاوب مع أية أفكار متوسطية، وستضع مشروع "الاتحاد من أجل المتوسط"، ضمن أولويات بحثها ونقاشاتها، لكن لن يكون ذلك على حساب عملية برشلونة.
وأحسب أن هذا الموقف المصرى "الناضج جداً"، قد انسجم مع الموقف الأوروبى العام الذى عبرت عنه ــ فى البداية ــ السيدة أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية التى أصرت ــ باسم أوروبا ــ على ألا يلغى "الاتحاد من أجل المتوسط" عملية برشلونة، ولذلك ليس من قبيل المبالغة القول إن الصورة الحالية التى استقر عليها هذا المشروع الذى يحمل اسم الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى، قد شاركت فى رسمها مصر التى أراد لها الأوروبيون جميعاً، أن تقتسم رئاسة القمة الأولى للاتحاد من أجل المتوسط، وأن توافق بالإجماع على اقتراح مصر، باستضافة القمة الثانية المقرر انعقادها فى 2010.
وللإنصاف يجب أن نذكر أن مصر، من منطلق استراتيجيتها بضرورة التعامل بإيجابية مع أية أفكار تدعو للشراكة، كانت حريصة على أن يظهر العرب فى هذه القمة فى صورة صف واحد وليس صفوفاً، صحيح قد تكون هناك متكسبات صغيرة تريدها كل دولة، لكن هذا لا يجب ألا يلغى المكتسبات المشتركة، ولعل حرص مصر على التئام اجتماع وزارى عربى، عشية انعقاد القمة فى باريس، كان بهدف الخروج برؤية عربية موحدة، لتكون فى مواجهة الرؤية الأوروبية الموحدة.
وليس من شك فى أن مصر لا تميل إلى فكرة إحداث قطعية من نوع ما بين المحورين السياسى والاقتصادى، اقتناعاً منها باستحالة الحديث عن استقرار اقتصادى، وتبادل تجارى، وازدهار تنموى بين الضفتين، ما لم يوضع حد للتوترات التى تتولد عنقودياً فى جنوب المتوسط من القضية الكبرى "قضية فلسطين". ولذلك لم تتردد مصر ــ فى أكثر من مناسبة ــ من تسجيل تحفظاتها على "تغييب" المحور السياسى سواء فى عملية برشلونة أو فيما يعرف بعد ذلك، بسياسة الجوار أو حوار 5+5 الذى حاولت به أوروبا، أن تفر ــ عبره ــ من آتون الخلافات المحتدمة بسبب الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى.
وظللت مصر مخلصة لهذا المبدأ ومتمسكة به، فوضعته على رأس نقاشاتها فى قمة "الاتحاد من أجل المتوسط"، رغم أن الأجندة الأوروبية سعت إلى تنحية المحور السياسى "وتحديداً عملية السلام" جانباً، بدعوى أن هناك أطراً أخرى، تستوعب هذه القضية بكل جوانبها وتشعباتها.
ولقد عبرت مصر عن ذلك، بتصريحات تنفى فيها أن يكون مشروع الاتحاد من أجل المتوسط "قطاراً" تركبه إسرائيل باتجاه التطبيع المجانى مع العرب، كما رفضت أن يكون هذا المشروع "ضربة" فى خاصرة مبادرة السلام العربية التى أقرتها قمة بيروت عام 2002، وأعادت قمة دمشق 2008 للتذكير بها، ومطالبة إسرائيل بالرد عليها، وهى المبادرة التى تنطلق نحو السلام العادل والشامل، تأسيساً على مبدأ مقايضة الأرض بالسلام.
ويبقى أخيراً أن نذكر أن الاهتمام بالبيئة المتوسطة وتنقية الفضاء المتوسطى من التلوث، وتأمين الطاقة الحيوية للضفتين، ثم تقوية الصلات الثقافية والعلمية من خلال إنشاء تنموى وعلمى وأكاديمى، ثم ضبط الحدود وحمايتها من المتسللين فى جوف الليل باتجاه الشواطئ الأوروبية "فيما يعرف بالهجرة السرية".
أقول إن كل هذه المشاريع، التى يبدو من ظاهرها على الأقل، أنها تخدم الدول المشاطئة للبحر المتوسط شمالاً وجنوباً، لا يجب ألا تلغى مشاريع الأمن والاستقرار وفرض السلام الذى سيكون بالضرورة، العقبة الأساسية نحو رخاء وازدهار منطقة حوض المتوسط.
وقديماً كان الاختلاف بين أوروبا والعرب، أنهما لا يريدان الشىء نفسه، فأوروبا ترمى ــ عبر جميع أشكال التعاون ــ إلى دعم مشاريعها الاقتصادية والتصديرية والاستثمارية، بينما يريد العرب دعم أوروبا لهم ولقضاياهم فى المحافل الدولية، وأحسب أن قمة "الاتحاد من أجل المتوسط"، إذا نجحت فى التقريب بين ما يريده العرب وما يريده الأوروبيون، فسيكون ذلك إنجازاً مهماً لدفع مسيرة حوار الضفتين.
وأخيراً من إيجابيات فكرة "الاتحاد من أجل المتوسط"، أنها الفكرة الأولى ــ على وجه اليقين ــ التى لم يصفق لها العرب منذ الإعلان عنها، وإنما تم تناولها بكثير من النقد والتشريح، وليس من شك فى أن ذلك يعتبر مظهراً لتعافى العقل السياسى العربى، الذى كثيراً ما كان معلولاً.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة