أوراق توت عديدة كانت تخفى عورات النظام العربى، بدأت فى التساقط.. هذا التساقط ستتسارع وتيرته كلما اقتربنا من موعد تنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية، الخاص باعتقال الرئيس السودانى عمر البشير خلال الثلاثة أِشهر القادمة. الأزمة أظهرت مدى هشاشة وعجز هذا النظام عن الصمود فى وجه رياح التغيير الدولية، التى تعصف بالعالم من حولنا.
ورقة التوت الأولى كانت تغطى عورة الجامعة العربية، التى لم تتمكن من الصمود طويلا أمام الأزمة، حيث تبين للرأى العام أنها لا تعمل لحساب الشعوب بقدر غيرتها ودفاعها عن الأنظمة، سواء أكانت على حق أم على باطل. وجاء غضب عمرو موسى على قرار المحكمة أكثر قوة من قلقه على أرواح أبرياء السودان، الذين راحوا ضحايا استمرار القتال فى دارفور على مدى خمس سنوات كاملة، لم يزر خلالها موسى الإقليم المشتعل نارا وفتنة سوى مرة أو مرتين، بينما وجدناه يقفز كل أسبوع إلى لبنان حتى صار شبه مقيم فى بيروت، منذ اندلاع الأزمة الداخلية بين القوى اللبنانية.
أحد زعماء التمرد فى دارفور أبلغنى بأنه توسل أكثر من مرة للأمين العام للجامعة العربية، أن يتوسط لحل النزاع فى الإقليم.. الرد الذى تلقاه فى كل مرة هو أن الجامعة نقلت طلبه للسلطات السودانية.. الأمر تكرر مع زعماء ووزراء خارجية عرب، وعندما تباطؤا جميعا فى التحرك كانت النتيجة دخول قوى خارجية على الخط، بعضها يتربص بالسودان.. هذه القوى احتضنت حركات التمرد وسكبت الزيت على الصراع، فأشعلوا نار الفتنة التى انتهت بمأساة إنسانية مروعة للسكان وانتكاسة سياسية عميقة لنظام الحكم.
ورقة التوت الثانية جاءت من الصفعة التى تلقاها الرئيس السودانى من بعض القادة العرب، الذين اكتفوا ببيانات باهتة ضد قرار المحكمة، فيما رفض بعضهم التجاوب مع تلميحاته بتوفير ملاذ آمن له فى حال تضييق المجتمع الدولى الخناق عليه، والإصرار على محاكمته، مما دفعه للاتجاه نحو قادة أفارقة يطلب منهم العون، لكنهم خذلوه أيضا كما حدث مع الرئيس السنغالى عبد الله واد. أتوقع أن نشهد خلال الأشهر القادمة مزيدا من سقوط أوراق التوت، التى كانت تغطى سوءات العديد من أنظمة الحكم العربية التى اهتزت عروشها وتحركت كروشها، خوفا وقلقا من اقتراب سيف "أوكامبو" البتار من هيبتهم والمس بسلطانهم الذى ظل فى منأى من أى خطر على مدى العقود الماضية.
ظنى أنه إذا كان هناك ميزة واحدة تذكر لقرار المحكمة الجنائية الدولية، بخصوص الاتهام الموجه للرئيس السودانى، أنه يمنح الفرصة أمام كبار المسئولين العرب، خاصة متخذى القرارات الأمنية والعسكرية ليراجعوا أوراقهم وقراراتهم، تحسبا للحظة يصلهم فيها طلب استدعاء من "المدعى العام بالمحكمة"، كما حدث مع الرئيس البشير.. الميزة الأخرى أن أغلب حكام الدول العربية سيحرصون من الآن فصاعدا على أن يكون لديهم جهاز قضائى محلى مستقل ونزيه ومشهود بكفاءة القائمين عليه، باعتباره الضمانة المتينة التى تحول دون تكرار ما حدث مع السودان فى أى بلد عربى آخر.
أما أسوأ ما فى قرار المحكمة الجنائية الدولية، أنه شق صفوف النخب والمثقفين، بل ودعاة حقوق الإنسان العرب، لأن أغلبهم بنى موقفه من الأزمة على أساس عملية خلط الأوراق، فمثلا رأى فريق منهم أن الهدف الأسمى لقرار المحكمة هو النيل من الكرامة الوطنية للشعوب العربية والإسلامية، ودليلهم فى ذلك هو عجز نفس المحكمة عن ملاحقة أى من الرئيس الأمريكى جورج بوش ومساعديه، الذين أصدروا قرارات غزو واحتلال العراق وأفغانستان وما ترتب عليه من قتل مئات الآلاف من المدنيين فى البلدين. كذلك الحال بالنسبة لمجرمى الحرب الصهاينة الذين يرتكبون جرائم مماثلة يوميا بحق الشعب الفلسطينى.. هؤلاء معهم كل الحق فى تخوين "المحكمة".. لكن هؤلاء نسوا نقطة فى غاية الأهمية، وهى أن بوش وشارون وغيرهما من المجرمين لم يرتكبوا جرائم بحق شعوبهم، بل كان إجرامهم موجهة إلى شعوب دول أخرى أرسلوا إليها بوارجهم وطائراتهم ودباباتهم الفتاكة، ودخلوا معهم فى نزاعات وحروب مسلحة.. هنا فقط تتضح عملية الخلط التى أرى أنها لها جانبان الأول صحى إيجابى يساهم فى تنمية الوعى الوطنى، والثانى سلبى ضار يمكن أن يصبح مظلة تحمى أنظمة الحكم الفاسدة، التى تسببت فى تخلف شعوبها وتراجعها عن ركب قطار الحضارة والتقدم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة