ظن وزير التعليم بنا ظن السوء، وتصور أننا مختومون على أقفيتنا، حتى نصدق أنه يمكن أن يستقيل، أو يفكر فى الاستقالة، فالوزراء فى بلدى لا يستقيلون، ولو بالطبل البلدى، وإنما تتم إقالتهم، فالوزارة حلوة خضرة، ولها شنة ورنة!.
فى أى بلد السيادة فيه للشعب فإن ظاهرة تسريب الامتحانات، على النحو الذى جرى، تستدعى إقالة وزير التعليم، لكن الوزير صرح لجريدة "الدستور" أنه لم يفكر – مجرد التفكير – فى أن يستقيل، "فمستحيل أن أهرب من الميدان". وهو أمر يؤكد أننا فى مواجهة فارس من فرسان زمن عنترة بن شداد. وكان من الممكن أن يكون لموقف الوزير قيمة، لو أنه كان قادرا على الضرب بيد من حديد، على من جعلوا "سيرة" التعليم فى بلادنا على كل لسان، لكن من الملاحظ أن الوزير "ضرب لخمة" منذ اليوم الأول لشيوع المأساة، فلم يتمكن من أن يوقفها عند الحدود الدنيا!.
سيرة التعليم المصرى فى الخارج لا تسر عدوا ولا حبيبا، وبعض دول الخليج يتم النظر فيها إلى درجتى الماجستير والدكتوراه اللتين يحصل عليهما "الخلايجة" من الجامعات المصرية، نفس نظرتنا إلى هاتين الدرجتين العلميتين اللتين يحصل عليهما المصريون من موسكو، فى العلوم الإنسانية، فقد ارتفع مستوى التعليم فى هذه الدول، والتى كان أهلها لا يعرفون كيف يتعاملون مع نعالهم، وهل يضعونها فى أرجلهم أم فوق رؤوسهم، وقت أن كانت مصر تعرف الإرساليات إلى جامعات فرنسا، ووقت أن أقامت أول جامعة على أرضها!.
إن هناك اهتماما فى دول الخليج بمستوى التعليم، وهناك تراجع مخيف فى بلادنا، وجاءت عملية تسريب الامتحانات هذا العام، وظاهرة الامتحانات التعجيزية التى يضعها الهاربون من مستشفى "أبو العزايم" للأمراض النفسية، لتكون كاشفة – وليست منشئة – لانهيار العملية التعليمية فى مصر!.
ومع هذا فالوزير لم يفكر فى الاستقالة، فكيف يهرب من الميدان، وهو الجندى مجند يسرى الجمل، ولا تثريب عليه، فالحظ يأتى للإنسان مرة واحدة فى حياته، والوزارة فى بلادنا هى لحظة حظ لا تتكرر، ولهذا فإن مصر لا تعرف ثقافة الاستقالة، ولا يوجد وزير استقال فى تاريخها الحديث، وحتى الاستقالة التاريخية لوزير تعليم عبد الناصر الراحل حلمى مراد، لم تكن استقالة بالمعنى المعروف، وإلا لتم شحنه إلى سجن الواحات، وربما لقى حتفه على يد صفوت الروبى، الجلاد الشهير فى سجون "ارفع رأسك يا أخى"!.
حلمى مراد انتقد بعض السياسات فى حضور عبد الناصر، وظن أن صدر القائد يتسع للنقد الوطنى، فإذا بصدره يصبح ضيقا حرجا، كأنما يصعد فى السماء، وإذ به يقول له: "فارقنا"، فكتب استقالته وانصرف، استجابة لرغبة الزعيم، ولأنه تنتابنا أحيانا حالة من "الشحتفة" فقد أرخنا لما جرى على أنه أول استقالة فى التاريخ المصرى!.
يقال إن حلمى مراد خرج بعد أن فارقهم، فلم يجد من يحمله إلى بيته، فحتى سائقه كان فص ملح وذاب، ومن يستمع إلى حالة الوزراء المقالين يوم تشكيل الحكومة الجديد، سيسمع أهوالا، تجعل "المنهجة" التى يعيش فيها الوزير، طوال فترة شغله لمنصبه، لا تساوى المعاملة غير الإنسانية، التى يلقاها من العاملين فى وزارته لحظة سماعهم خبر إقالته، ويكون محظوظا من يسمع هذا الخبر فى منزله، فلا يرى "الندالة" تمشى على قدمين!.
وزيرة سابقة للبحث العلمى، علمت بخبر إقالتها فى التشكيل الجديد من التليفزيون، فتركت مكتبها وانصرفت، وقد وجدت نفسها مضطرة للوقوف فى طابور الموظفين فى انتظار دورها فى "الأسانسير"، وخرجت لشارع قصر العينى، ولم تجد سائقها، فوقفت لتستقل"تاكسى"، وقد رأف بحالها أحد المارة، فتولى هو عملية "إيقاف" التاكسى!
وزير التعليم السابق، الدكتور حسين كامل بهاء الدين، كان من المقرر للحكومة الجديدة أن يشكلها الدكتور كمال الجنزورى، وكان طبيعيا أن يستبعده، وإن كان الوزير قد صرح لى لاحقا أنه من رفض الاستمرار فى العمل معه. كان هذا قبيل إعلان تشكيل الوزارة بأكثر من أسبوعين، قضاهما فى بيته، وكان الجميع يعلمون أن التشكيل الجديد لن يشمله، وقد اتصلت به "مواسيا"، فهو من وجهة نظرى من الوزراء السياسيين القلائل الذين عرفتهم مصر، منذ أن قضى عبد الناصر على السياسة واستغنى عنها بـ"التكنوقراط"!.
الوزير قال لى إنه أدى واجبه تجاه بلده وانتهى الأمر، وهو كلام يعنى أنه خرج من الوزارة بلا عودة، فأقيمت الأفراح والليالى الملاح، وأطلقت الموظفات الزغاريد لتهز جنبات الوزارة، وشارك فى ذلك الذين صنعهم على عينه. بعد ذلك تم الاستغناء عن خدمات الجنزورى، وتكليف عاطف عبيد بتشكيل الوزارة، وعاد حسين كامل بهاء الدين إلى مكتبه!.
وربما استمع الوزير الجمل إلى بعض من هذا فى وزارته وفى الوزارات الأخرى، فعلم قيمة المنهجة التى هو فيها، وربما قارن بين وضعه الاجتماعى السابق ووضعه الحالى، فوقف على الفرق. ومعلوم أنه لم يكن قبل ذلك من غمار الموالى، فقد كان أستاذا جامعيا معتبرا، لكن منصب الوزير هذا "شكل تانى"، على رأى الست نجاة، ويصبح من غير المنطقى أن يستقيل، وإن كان من غير المنطقى أيضاً أن يظن بنا ظن السوء، ويتصور أننا ممكن أن ننتظر أن يستقيل!. ويا عزيزى الدكتور الجمل: خليك بالميدان، ولا تهرب!.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة