نجحت أجهزة الأمن الثلاثاء، حسب الرواية المتواترة فى الصحف، فى منع صدام جديد بين عرب قصر هور ورهبان دير أبو فانا، فى الوقت نفسه قررت نيابة طامية بالفيوم حبس 18 شخصاً متهماً فى أحداث شغب بين مسيحيين ومسلمين، وقبلها تكررت الحوادث العدائية بين الجانبين فى المنيا والإسكندرية والقاهرة، مما يذكرنا بأحداث الثمانينيات والتسعينيات الطائفية، التى لم تنطفئ نارها رغم مرور السنوات.
الملاحظ أن نذر الفتنة تتراكم منذ فترة فى الأفق، وتتضخم مثل كرة الثلج المتدحرجة ولا حلول جذرية لها، وكأنها جزء مكون من المجتمع المصرى، والعكس هو الصحيح بالطبع فهى مسألة طارئة لكنها خطيرة، ورغم خطورتها الشديدة لم يرق التعامل معها من قبل الدوائر المسئولة عندنا، إلى مستوى خطورتها، بل لا أتجاوز لو قلت إن طريقة التعامل مع المسالة الطائفية، هو ما يعقدها ويجعل منها لغماً فى نسيج المجتمع.
الدوائر المسئولة عندنا لاتعترف بوجود المشكلة الطائفية أصلاً، فى الوقت الذى تعتبر فيه العلاقات بين المسلمين والمسيحيين ملفاً أمنياً، الأمن وحده المخول بالتعامل معه والبت فيه، كما تتبع سياسة التبريد والتسكين والتعامل الجزئى مع أعراض الفتنة وكأنها هى أصل الداء، وكلما تكررت الأعراض فى المنيا أو فى الزيتون، فى الفيوم أو فى الإسكندرية تصورها وسائل الإعلام الموجهة أمنياً على أنها مشكلة طارئة أو حادثة فردية ارتكبها مختل.
خطوات العلاج الشافى، للمسألة الطائفية تبدأ بالاعتراف بوجودها بداية، فقوة العلاقة بين عنصرى الأمة وقدمها تسمح بهذا الاعتراف الشجاع ولن يضيرها الاعتراف بل سيدعمها ويجعل الالتفاف على الفتنة مسئولية كل فئات المجتمع، وليست مسئولية الأمن وحده. بعد هذا الاعتراف يأتى التشخيص وتبيان الأسباب المؤدية للفتنة واقتراح الحلول الجذرية، التى لن تتحقق إلا بمشاركة ومسئولية كل فئات المجتمع.
أقول إن الفتنة الطائفية مثل غيرها من الأمراض المجتمعية البغيضة، ليست نتيجة هبوط كائنات من المريخ أفسدت العلاقات الطبيعية بين المسلمين والأقباط، ولكنها نتيجة لحزمة من السياسات التشريعية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية الفاشلة والمقامرة على مدى الثلاثين عاماً الماضية، أدت إلى إمراض المجتمع وإفقاره، وصولاً إلى تحلل الروابط بين أعضائه.
عندما نقول الفتنة الطائفية لابد أن نقرنها ببداية العبث بالدستور فى العهد الساداتى واستخدامه فى فرض دولة "العلم والإيمان" بتحريف المادة الثانية منه، التحريف الإقصائى الذى ترافق مع إعطاء الضوء الأخضر للإخوان لتحجيم اليسار، فانفتح باب جهنم من الصحراء الوهابية علينا ولم يغلق حتى الآن، كما لم يخفف منه الترقيع الأخير للدستور بالمادة الخاصة بالمواطنة.
عندما نقول الفتنة الطائفية، لابد أن نقرنها بسياسات الصدمة الاقتصادية التى انتقلت بالمجتمع من حضانة الاقتصاد الموجه إلى مفرمة اقتصاد السوق بحسب صيغة جمهوريات الموز التى تجعل من الاقتصاد الحر، مجموعة من التوكيلات والاحتكارات لخدمة فريق السلطة وجمعية المنتفعين منه مع غلق السوق عليهم ليتحولوا إلى مصاصى دماء وثروات دون أية مسئولية اجتماعية، محولين اقتصاد الدولة إلى اقتصاد أسود يقوم على علاقات الفساد المحمية بالسياسة.
عندما نقول الفتنة الطائفية لابد أن نقرنها بسياسات أمنية تتعامل مع ملف الفتنة كما يتعامل معاون المباحث مع "المسجل خطر" يطلقه حراً لأنه الوسيلة التى بدونها لن يحقق نجاحا عمليا، فالمجرم الطليق هو الذى يجلب القضايا لمعاون المباحث، والفتنة هى وسيلة الضغط من قبل الدوائر الأمنية على كافة الأطراف المكتوية بها بهدف السيطرة عليهم.
عندما نقول الفتنة الطائفية لابد أن نقرنها بالتصور الحالى للعلاقة بين السلطة والمواطنين، فقد ألغت السلطة العقد الاجتماعى الذى كان سائدا منذ الخمسينات وحتى أواخر السبعينيات ويقوم على إقصاء المواطنين من المشاركة فى كل ما يتعلق بوطنهم، مقابل توفير أسباب العيش والعمل والرعاية، ما حدث منذ منتصف الثمانينيات أن السلطة بدأت فى التخفف التدريجى مما توفره للمواطنين مع الإبقاء على آليات إقصائهم من العملية السياسية والتوسع فى شقها الأمنى، فتحول العقد الاجتماعى الذى كان قائماً ومقبولاً فى الماضى إلى عقد قهر وإذعان، وكان رد الفعل المجتمعى عليه، عنفا داخليا هائلا تبدى فى جرائم شاذة لم يكن المجتمع يعرفها وتحلل مؤسسة الأسرة وتكريس الفساد الصغير وانتصار قيمة المال أياً كان مصدره على ما عداه من القيم وشيوع التعدى على ما هو عام ومملوك للدولة انطلاقاً من شعور المصريين أن " بيت أبيهم خرب وعليهم أن يلحقوا منه قالباً" حسب المثل الشعبى، وفى قلب هذا العنف يأتى الاحتقان بين المسلمين والمسيحيين.
عندما نقول الفتنة الطائفية علينا أن نتذكر أن السلطة حرمت المواطنين من كل وسائل المشاركة والتعبير على الأرض ودفعتهم دفعاً إلى العيش فى واقع افتراضى فى السماء وأطلقت عبر سياساتها الفاشلة والمقامرة أسوأ ما فى المجتمع من أمراض وعلل، مجتمع أصبح رأسه فى السماء وقدماه على الأرض يكره الحياة، ويحاول أن يجذب السماء كما يتصورها إلى أرضه، يتشدد فى مظاهر الدين الخارجية بينما روحه وسلوكياته وثنية صرفاً، مجتمع كهذا أصبح أفراده يتصورون أنفسهم وكلاء عن الله ويمارسون عنفهم المكبوت بالتطوع بتطبيق العقوبات الإلهية تجاه بعضهم بعضاً، كما يعيدون إنتاج سياسات الإقصاء والاستبعاد التى تمارسها عليهم السلطة تجاه بعضهم أيضاً.
والسؤال الآن: ما العمل؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة