كل المؤشرات أوحت أنه سيكون صيفاً مؤلماً على المصريين، رحل كثير من كبار هذا البلد عن عالمنا، دون أن يتركوا وراءهم من يحمل الراية، ويكمل المسيرة. رحل منذ بداية صيف 2008 المؤرخ رءوف عباس، والروائيان سامى خشبة وألبير قصيرى، والمفكر والسياسى عبد الوهاب المسيرى، والمبدع يوسف شاهين، وأخيراً القيادى العمالى إبراهيم شكرى.. رحل هؤلاء دون أن يتركوا ـ باستثناء شاهين ـ صفاً ثانيا يكمل المشوار، فهل العيب فيهم، أم أنها ثقافة مجتمع وتقاليد بلد بات شبه عاجز عن تفريخ قيادات جديدة فى الكثير من المجالات.
فى يونيو كانت الثقافة المصرية والعربية على موعد مع الحزن، لتفقد المؤرخ الكبير رءوف عباس، والروائيين سامى خشبة وألبير قصيرى، ورغم ما يمثله ألبير قصيرى، وسامى خشبة من قيمة كبيرة إلا أن رحيل رءوف عباس طغى على الشارع المصرى والعربى بشكل كبير.
رحل عباس الخميس 26 يونيو عن عمر 69 عاماً. بعد أن رفض فى منتصف سبعينيات القرن الماضى الاشتراك فى مشروع الرئيس السادات لـ"إعادة" كتابه تاريخ مصر المعاصر، والذى عين السادات نائبه آنذاك الرئيس مبارك مسئولاً عنه، كانت وجهة نظر عباس أن السادات أراد تاريخاً ذاتياً بعد أن حدد بداية كتابة التاريخ منذ حبسه وفصله من الخدمة فى الجيش فى قضية التخابر مع الألمان الشهيرة باسم قضية "حكمت فهمى"، حينها قال عباس إن ذلك ليس حدثاً فارقاً فى تاريخ مصر لنبدأ من عنده كتابة التاريخ.
وترك عباس المؤرخين وفى رقابهم أمانة تدوين تاريخ هذا البلد، فهل يكتب التاريخ ما بعد رءوف عباس بين الرغبة فى رضا الحاكم، أو الرهبة منه، أم سنقدم للأجيال المقبلة رؤية تاريخية محايدة، خالية من الزيف، وبعيدة عن المجاملة. تركنا عباس، بعد أن وضع سيرته الذاتية "مشيناها خطى"، والتى عرض خلالها كافة التغيرات والتقلبات التى شهدها المجتمع المصرى على مدار نصف قرن، ورغم رفضه أن يكون مؤرخاً للنظام، إلا أنه نال جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية عام 1999.
تتوالى أحزان المصريين ليرحل السياسى والمثقف المصرى عبد الوهاب المسيرى فى بدايات يوليو الماضى، بعد عمر من النضال فى القضية الفلسطينية التى أثراها بكتاباته ودراساته عن إسرائيل، وبعد أن أفنى سنواته الأخيرة شاغلاً منصب أمين عام حركة كفاية التى حركت كثيراً من المياه الراكدة فى الشارع السياسى المصرى منذ عدة سنوات.
رحل المسيرى بعد أن آثر الشهادة فى ميدان كفاية، وبعد اعتقالات من جانب الأمن المصرى، لم تراع سناً ولا مكانة. ودعنا المسيرى دون أى تكريم من جانب الدولة، بلا نشان أو وسام، لكنه بلا شك حياً فى قلوب الملايين. غاب المسيرى عن كفاية، التى بدأ دورها يتراجع فى الشارع أمام الصعود اللافت للتيار الدينى ممثلاً فى جماعة الإخوان المسلمين، فهل يخرج من كفاية أو غيرها معارضاً مثقفاً فى وزن وثقل المسيرى؟ أم سنمضى مع قيادات حزبية تنادى بإسقاط مشروع توريث الحكم، وتطالب بإسناد المهام للأجيال المقبلة، وأغلبها تجاوز سن التقاعد، أم نكفر بمن فى الأرض ونتجه جميعاً إلى السماء، ونقحم الدين فى السياسة بلا جدوى.
لم يكن رحيل المسيرى "آخر الأحزان"، كما لم يكن رحيل المخرج العالمى يوسف شاهين الذى لحق به آخرها، رحل "جو" فى 27 يوليو بعد أن تركنا مع "الفوضى" فى آخر أفلامه، التى كانت رسالة صريحة فى وجه الجميع، محذراً من حالة الانفلات التى وصل إليها الشارع المصرى.. رحل مع صدور حكم براءة متهمى قضية عبارة السلام، كما لو كانت روحه تأبى العيش وسط هذا الظلم، وكما لو كان يقول "هى فوضى"!!
كانت الإسكندرية التى شغلت فكره وفنه، آخر المشوار، ودع المصريون شاهين فى مقابر الروم الكاثوليك بمنطقة الشاطبى.. ودعوه، لكن أعماله لا تزال بيننا ولا تزال لمساته حية فى كل مشهد من أفلامه. شاهين دون غيره، ترك وراءه من يحمل الراية، ليكمل مسيرته الفنية، والذى حمل اسمه المخرج المبدع خالد يوسف، الذى شاركه إخراج آخر أعماله "هى فوضى".
وفى زمن "الفوضى" فقدنا آخر العظماء، إبراهيم شكرى القيادى العمالى، ووزير الزراعة الأسبق، الذى رحل فى 5 أغسطس الجارى، رحل بعد أن عارض بشدة اتفاقية السلام مع إسرائيل، ووقف فى وجه التطبيع، رحل شكرى ليؤكد أن صيف 2008 كان الأقسى على هذا البلد.
تركنا شكرى بعد عمر من النضال العمالى، وبعد أن شغل عدة مناصب سياسية منها أمين الاتحاد الاشتراكى السابق، وأمينا للمهنيين بالاتحاد الاشتراكى ونقيب الزراعيين لعدة دورات، كما عين محافظاً للوادى الجديد فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات، ثم وزيراً للزراعة والإصلاح الزراعى وعضواً بمجلس الشعب حتى أوائل التسعينيات.
تركنا شكرى بعد أن فقد الفلاحون قانون الإصلاح الزراعى، الذى دافع عنه حتى تمريره فى أولى أيام ثورة يوليو 1952، تركنا شكرى مع رأسمالية فقدت رأسها، وصوابها، تركنا مع قانون الاحتكار، ومع تصدير الغاز وحتى الفول إلى إسرائيل، تركنا على أعتاب انتفاضة عمال تبحث عن قائد.
وأمام كل الراحلين عن تراب هذا البلد، لم يكن الحزن مصرياً خالصاً، فإذا ما انتسب الحزن قال "أنا عربى".. منذ أيام فقدنا صوت فلسطين والمقاومة الشاعر الفلسطينى محمود درويش، الذى كان ـ حتى كتابة هذه السطور ـ آخر الأحزان.. زميلنا كريم عبد السلام كتب ذات يوم "يونيو أقسى الشهور" لينعى من فقدناهم (رءوف عباس، ألبير قصيرى، سامى خشبة)، لكن على ما يبدو أن صيف 2008 كان الأقسى، وربما العام بأكمله، أو أعوام تالية، لكن متى نقول وداعاً ونحن واثقين فى أبناء هذا الجيل؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة