منه لله عبد الرحمن الأبنودى، فهو المسئول عن ظاهرة الذين يعملون "صعايدة" فى القاهرة! المذكور اكتسب شهرته من أنه يتحدث لهجة صعيدية واضحة، ويتطرف فى النطق ليظهر أنه صعيدى، ويعيد ويزيد فى حواديت، كثير منها يدخل فى باب الأساطير عن الصعيد والصعايدة، ويبدأ الحكى بـ"أمى قالتلى". وجاء جيل جديد استهوته الشغلانة، فاشتغل "صعيدى"، لعل وعسى، واستهوى البعض رواية القصص، واستخدام عبارة "أمى قالتلى"، مع أنه لا يوجد صعيدى يمكنه أن يقول أمام الناس "أمى قالتلى"، وإلا سيُطلقون عليه "ابن أمه"، وهى تهمة لا يمحوها إلا الدم!.
ومؤخرا، وبمناسبة الحكم الصادم ببراءة مالك العبارة، الذى شحن أكثر من ألف مصرى للدار الآخرة، قال البعض إن أهالى الضحايا صعايدة، وأنهم بعد هذا الحكم سيأخذون بالثأر. وقد أخذت بعضهم الحمية – المبررة – وهددوا بقتل ممدوح إسماعيل، وقيل إن الأجهزة الأمنية احتشدت، من أجل أن تجردهم من الأسلحة، حتى لا يأخذون بالثأر، فقد قال البعض إن القوم قرروا الأخذ بالثأر، بعد أن خذلهم القضاة، وبحكم كونهم صعايدة، فهم أهل مكة الذين هم أدرى بشعابها!
وما قيل أعطى ممدوح المذكور المبرر، ليبقى فى الشقيقة الكبرى لندن، حتى يمن الله عليه بالبراءة، ولا يجوز لأمثالنا القول بإنه هارب من العدالة، وأن هروبه دليل إدانة، وأن على رأسه بطحة، ولم يجد مكانا أمنا فى مصر يمكنه أن يحسس فيه عليها، فذهب إلى بريطانيا العظمى ليحسس فى أمان الله، فهو ليس هاربا من العدالة، ولكنه هارب من ثأر الصعايدة، ومن هنا فقد حرمونا من لحظة انتصار، تتمثل فى وقوفه فى القفص الحديدى، لأن الرجل براءة فى الاستئناف، بشهادة كل من له صلة بالقانون، فبعد ما قامت به النيابة العامة من تضبيط للتهمة سيحصل بعون الله على البراءة، ولو أمام محكمة النقض!
أدبيات سياسة الأخذ بالثأر، لا تنطبق على حالة ضحايا العبارة، وإلا لكان الضحايا الصعايدة حملوا الشوم، وقاموا بتصفية العاملين فى قطاع السكك الحديدية، ولكان جائز أن يحمل صعيدى (رضع من ثدى أمه ولم يتعامل مع اللبن الصناعى) رشاشا، ويقتحم على وزير النقل مكتبه، وبدون سلام ولا كلام يمنحه (ملوة) يجعل فيها جسده غربال، فحادث القطار الشهير ضحاياه صعايدة، والمحكمة برأت كل المتهمين المحالين إليها، وقالت نصا إن المتهم الحقيقى لم يقدم للمحاكمة، أى أن هناك متهما يستدعى قتله أخذا بالثأر!.
ثم أن الذين يعتمدون سياسة الأخذ بالثأر، لا يمنعهم إدانة الجانى، ولو وصلت الإدانة إلى الإعدام من أن يطبقوا عليه حكمهم، فذلك لا يدرأ الحد، ولا يشفى الغليل، ما دام أهل المغدور لم يأخذوا حقهم بأيديهم، بل إنه فى كثير من الأحيان، لا يعترفون على القاتل، حتى يتمكنوا من قتله، لأن فى سجنه حائل دون قتله ثأرا، وإذا حدث وأدين قضائيا، فلن يمنعهم هذا من أن يضطروا آسفين – أو غير آسفين – لأن يأخذوا بالثأر من أحد أقربائه! والمعنى، لو كانت حالة صاحب العبارة يجوز فيه التعامل بمبدأ الثأر، لما انهار أهالى الضحايا على النحو الذى شاهدنا عقب النطق بالحكم، ولسعدوا ببراءته، حتى يتمكنوا من القيام بمهمة قتله!.
ثم أن الأسر التى تقرر الأخذ بالثأر، لا تعلن هذا أمام الفضائيات، ولا تدعو لمؤتمر صحفى تقرر فيه قتل ممدوح إسماعيل ثأرا، وإلا لكنا أمام فيلم كوميدى، والحادث مؤلم بكل المقاييس. لكن المشكلة، فى أن هناك من يتعاملون كما لو كانوا قد "فكوا حجر رشيد"، عندما يتحدثون أمام البحاروة عن الصعيد والصعايدة، وكأنهم يتحدثون عن قبائل الدينكا أو عن أكلة لحوم البشر. وهناك من انتقل فضائيا ليتحدث أمام العالم عن الصعيد، الذى لا يعرفه إلا الرحالة القدامى وحضرته، وكلما شاهد على وجوه المستمعين اندهاشا، عاد وزاد، ولت وفت! إنها حالة من التضليل يمارسها من قرر أن تكون مهنته "صعيدى"!