حمدى الحسينى

عائد من دارفور" 2 "

الأحد، 17 أغسطس 2008 12:05 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أطراف عديدة تقع على عاتقها مسئولية ترك أزمة دارفور تتفاقم إلى الحد الذى وصلت إليه، وتحولها من مجرد حالة من الغضب الشعبى الداخلى بين أبناء الوطن الواحد إلى مأساة إنسانية تهز مشاعر العالم الخارجى.

المسئولية الأكبر تتحملها السلطة القائمة بسبب فشلها فى احتواء التمرد، ثم يأتى دور المتمردين أنفسهم الذين استغلوا ضعف هذه السلطة وتحمسوا لتدويل الأزمة، غير مقدرين تبعات مثل هذه الخطوة على مستقبل وطنهم، وهنا تأتى مسئولية الطرف العربى الذى لم يقدم أى مبادرة جادة لحل الأزمة أو وقف تدهور الأوضاع بالإقليم، بعد ذلك هناك دور الجيران المتربصين الذين وجدوا فى الاحتقان فرصة لمزيد من إضعاف الدولة السودانية، ثم أخيرا يأتى دور القوى الدولية التى ساهمت فى استمرار الصراع من خلال إيواء المتمردين وتقديم العون المادى والإعلامى لهم بهدف انتزاعهم من بعدهم العربى وربما الإسلامى أيضا.

الساعة الآن التاسعة صباحا. .أنا فى طريقى إلى مطار الخرطوم الدولى موعد الطائرة المتجهة إلى "نيالا" عاصمة دارفور الاقتصادية بعد 60 دقيقة من الآن. أنا أجلس على مقاعد صالة السفر الخشبية انتظارا لإنهاء إجراءات السفر، لا أدرى لماذا تذكرت مشاهد الوداع فى الأفلام المصرية القديمة..المعاملة طيبة للغاية.

باب صالة السفر يؤدى إلى ساحة شديدة الاتساع تقف فيها طوابير من طائرات شديدة القدم. .شكل الطائرات غير عاطفى. .سائق الباص وقف أمام إحداها..أمرنا بالنزول..نزلنا وركبنا الطائرة. لحظات وتقلع ..تبادلت التحية مع واحد من مشرفى الطائرة وسألته عن الوقت الذى تستغرقه الرحلة إلى نيالا..نظر إلى باستغراب ثم قال هذه طائرة "دنقلة " -محافظة شمالية - أمرنا بالنزول بسرعة لنلحق بطائرة نيالا. .لم يتبق على موعد الإقلاع سوى 5 دقائق.

الطائرة من نوع "أنتينوف" الروسية العتيقة مصنوعة فى نهاية النصف الأول من القرن العشرين. . الطائرة من الداخل تشبه إلى حد كبير سيارات هيئة النقل العام المصرية. .لحظات بعدها تم إغلاق الأبواب ثم بدأت وقائع الرحلة. .عدد ركاب الطائرة حوالى 60 راكبا كان نصف المقاعد خاليا بينما أغلب الركاب إما موظفون فى هيئات حكومية وإما منظمات إغاثية، بالإضافة إلى بعض أعيان نيالا من زعماء القبائل.

مشرف الطائرة اعتذر للركاب بسبب تعطل أجهزة التكييف ثم أعطى ظهره لكابينة القيادة ووجهه إلى الركاب، وقرأ ما تيسر من آيات الذكر الحكيم، بعدها شرح لنا عناصر الآمان بالطائرة وأبلغنا أن الرحلة تستغرق 120 دقيقة وتمنى لنا سفرا ممتعا!! بهدوء تحركت الطائرة على المدرج ثم أقلعت بهدوء أيضا.. أوشكنا على الاختناق فى تلك اللحظة من شدة الحرارة ودوى صوت المحركات الذى صم آذاننا..جلست كالعادة بجوار النافذة..صديق سودانى نصحنى بوضع قطن فى أذنى..الخرطوم من أعلى جميلة بصرف النظر عن مشهد أحياء الصفيح التى تكاد تخنقها..نهر النيل يحتضن الخرطوم برفق يزيدها جمالا وبهجة.

النيل هنا يختلف شكله عن نيل القاهرة..اتساعه أكبر وشاطئاه غير محددى المعالم. .الركاب فى حالة رعب، خاصة الذين يركبون هذا النوع من الطائرات لأول مرة..حاولت الهروب من الخوف والاستمتاع بالمشاهد الخارجية..صورة الخرطوم اختفت خلف الطائرة التى دخلت عباب الصحراء الجرداء الخالية من كل شئ باستثناء بعض الأشجار.. "الأنتينوف " طائرة تتميز بالطيران على مستوى منخفض، ففى كثير من الأحيان كنت أشاهد ظل الطائرة مرسوما على الجبال والرمال. .أزيزها المرعب كان يثير ذعر قطعان الماشية فى الصحراء..

سرحت بخيالى بعيدا إلى أحوال السودان، أكبر دول أفريقيا مساحة، وشعبه البالغ عدده نحو 40 مليون نسمة أغلبهم يتحدثون العربية إلى جانب 600 لهجة محلية، القبيلة هى المظلة الاجتماعية، فالولاء لها يسبق أى شئ آخر، ففى السودان حوالى 200 قبيلة أساسية يتفرع منها قبائل صغيرة تابعة. الرعى والزراعة هما الحرف الأساسية لأغلب السكان الذين ينتمون إلى الأصول العربية والأفريقية.

أما إقليم دارفور محور اهتمامنا حاليا، فيضم ثلاث ولايات رئيسية هى الفاشر شمالا ونيالا جنوبا والجنينة غربا، مساحة الإقليم أكبر من مساحة فرنسا وتقترب من مساحة مصر، يعيش فيه حوالى 6 ملايين نسمة جميعهم مسلمون سنة موزعون على أربعة قبائل أساسية، ثلاث تعود جذور أغلبها إلى الأصول الأفريقية، وهى بالترتيب الفور الزغاوة والمساليت، بالإضافة إلى المحاميد كبرى القبائل العربية..كل قبيلة تنقسم إلى عدد من القبائل الفرعية.

دارفور كانت سلطنة مستقلة عن باقى السودان حتى مقتل على دينار آخر سلاطينها على أيدى القوات الإنجليزية عام 1916 بعدها تم ضم الإقليم إلى السودان. فجأة شعرت بيد مشرف الطائرة تمتد نحوى ويناولنى "ساندوتش" ملفوفا فى ورق أبيض، وفى يده الأخرى "إبريق" الشاى، طلب منى سحب كأس من أسفل المقعد..أكلت الساندوتش وشربت الشاى ونظرت من النافذة. .لاحظت تراجع اللون الأصفر وبدأ يحل محله تدريجيا اللون الأخضر، وهنا أعلن قائد الطائرة أننا على مشارف دارفور.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة