خالد الشريف

المنابر الخاوية.. والشيخ كشك

الخميس، 21 أغسطس 2008 12:27 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
حيرة الجمعة لا تزال تمد سلطانَهَا على منذ أن أغادرَ نومى إلى أن أتهيأ للصلاة: أى مكانٍ أذهب إليه؟ وما الكلام الذى سأتجرع مرارته اليوم، من فم لا يضبط كلامه، وخطيب لا يعرف واقعه، ولا يستطيع إيصال نافع مفيد فى أسلوب ميسور؟!! حيرة لاهية..ولستُ وحدى فى هذا الأمر، بل شمل داءُ الحيرة الناس: أين يحضرون خطبة الجمعة؟

توكلت على الله وقررت أنا وأولادى منذ فترة الصلاة فى أقرب مسجدٍ يُنْهِى الخطبة مبكرا، حتى أخلص من الاستماع إلى خطبة لا تؤثر ولا تغير ولا تعلم..فما هو إلا أن أؤدى فرض ربى، وأَخْرُج معافًى سليم القلب من ضغط الهم الذى يُمْسِكُ بى عندما أُصْغِى إلى خطباء هذه الأيام!

وبالأمس القريب صدر تقرير "رسمى" يؤكد مقاطعة 37% من المصريين لخطبة الجمعة.. وبلا شَكٍّ فإنّ ضَعْفَ ثقافة الدعاة، وعدم معايشتهم لمشاكل الجمهور، وانفصال الخطبة عن الواقع، وراء تفاقم الظاهرة..ولعلى لا أخطئ إذا قلت: إن الخطباء يتحملون المسئولية كاملةً فى تزايد أعداد مقاطعى خطب الجمعة، والذين ينتظرون فراغ الخطيب من كلامه ليقضوا الصلاة سِرَاعًا حتى يئوبوا إلى البيت!

وقد صدق الشيخ محمد الغزالى رحمه الله حين قال فى كتابه "هموم داعية": إن حقل الدعوة يضم "الْمُتَرَدِّية والنَّطِيحة"!! لذلك أصبحت صورة الخطيب مشوَّهة، وبالتبعية أصبحت خطبةُ الجمعة طقسًا دينيًّا مُمِلا، يخوض فى أمور بعيدةٍ أشدَّ البعد عن قضايا الناس. وهذا الكلام أيقظ فى القلب حنينه إلى جيل السبعينيات، حينما كان الناس يحتارون نعم، ولكن حيرتهم كانت لامتلاء الساحة بالكبار الكبار!!

فيتساءلون كل خميس: عند مَنْ يصلون؟! عند الشيخ كشك فى عين الحياة بدير الملاك، أم عند الشيخ الغزالى فى عمرو بن العاص، ثم فى مسجد النور، أم خلف الدكتور عبد الرشيد صقر بالمنيل، أم الشيخ عبد اللطيف مشتهرى بالجمعية الشرعية، أم الشيخ إبراهيم عزت فى مسجد أنس بن مالك فى المهندسين؟!

هذا غير كثير من الدعاة الكبار المتنقلين من مسجد إلى مسجد.. فكانت الخطبة مِنْبَرًا ثقافيا وتربويا، حتى لتكون بمثابة مؤتمر عالمى يتناول أحداث الأسبوع. فهذا الشيخ البليغ المفوه الشيخ كشك رحمه الله..كان أزهريًّا يملك ناصية البيان، ويحسن استخدام أدواته الخطابية فى حشد قلوب الآلاف حوله، مما أكسبه شعبية جعلته يتعرض لإغراءاتٍ كثيرةٍ من قِبَل السلطة، حتى دعاه السادات شخصيًّا عدة مرات للإفطار معه فى رمضان، فأَبَى، وصمد أمام محاولاتِ السادات الكثيرة لاستمالته، وظل مُحِبًّا لدعوته، قويًّا فى عزيمته التى لا تلين..حتى إنه يوم خرج من سجون عبد الناصر بعد سنوات الاعتقال والإهانة والتعذيب؛ بتهمة تحفيظ القرآن(!!) لم يسكن حتى صعد المنبر يوم الجمعة التالى له، صادحًا على أعواد منبره بصوته المتوهج ، مرددًا قول الشاعر:

وقد يجمع الله الشتيتَيْنِ بعدما يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أنْ لا تَلَاقِيَا!
كأنما كان السجن مِعْطَفًا يرتديه زمنًا، ثم رمى به إلى الأرض غير مبالٍ، وصعد منبره كما كان، قاصدًا ربه، محبا لأمته، مما جعل مسجدَهُ قِبلةَ الشباب، ومقصِدَ الشيوخ، فما أن تُطِلَّ شمس صباح الجمعة حتى يتوافَدَ الآلاف من الساعات الأولى إلى المسجد، ظامئين إلى صوت الشيخ وعلمه وأدبه، وتعليقاته الأسبوعية الصادعة بالحق على أحداث بلاده..حتى أن المسجد ضاق بزواره، فبُنِيَتْ أربعة أدوار وألحقت بالمسجد، ومع ذلك اكتظت الشوارع بالناس، وتراصوا بالآلاف فى وقدة الشمس يسمعون الشيخ لا يبالون بشىء من حر أو برد.

وسر هذا الأمر أن الشيخ كان ورعًا زاهدًا فى الدنيا، قويا فى الحق والصدع به، متواضعا مع الناس..وكان بجوار هذا كله مثقفا يقرأ الصحف والمجلات، ويطالع الأخبار يوميا، منفتحًا على الثقافات الأخرى، قارئًا فى الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلسفة، مُتَنَبِّهًا لما يغص به مجتمعه من قضايا ومشكلاتٍ وهمومٍ يُعَالِجُهَا ببيانه المشرق، وأسلوبِهِ المعروف، ولذلك عرف طريقه إلى قلوب الناس، واجتمع حوله القاصى والدانى.

وقد كان الشيخ مميزًا بالصدع بالحق الذى يراه، فقد هاجم الرؤساء والحكام بكل جرأة، وانتقد الأوضاع العربية والسياسية، فضجر منه الحكام والملوك، وتعرض للاعتقال أكثر من مرة.. وبعد اعتقاله الأخير فى سبتمبر 81، واغتيال السادات، خرج من السجن بعد عام، رافضًا كل الإملاءات والإغراءات، مكتفيًا بجلوسه فى بيته المتواضع، بعيدًا عن المهادنة والمراوغة. ولقد زرتُ هذا الرجل العظيم، ودخلت بيته بعد الإفراج عنه، ورأيت هذا الذى أعرض عن الدنيا، وزهد فى إغراءات الكبار، وأتعب الحكام والرؤساء، يعيش فى شقة متواضعة، ولا يملك صالة استقبال لكى يجلس فيها الضيوف الذين يزورونه..بل يجلس ضيوفه على "كنب" بلدى، ويرتدى جلبابًا من الكستور المحلاوى..

ومع هذه الحالِ الزاهدة، رفض الشيخ الكبير عرضًا من إحدى الدول العربية لتعيينه خطيبًا فى أحد المراكز الإسلامية فى أوربا مقابل 120 ألف جنيه شهريًّا، وكان مبلغًا ضخمًا أيامها..ولكنه أبى غير متردد كأنّ معنى المال سقط من قلبه! وملك حب مصر عليه فؤاده ؛ لأنه أراد العيش فيها كريمًا عزيزًا، ولو كان فى حال الفقر وقلة ذات اليد، راغبًا فيما عند الله..فنال الشيخ شَرَفَ الثناء الحسن، والخاتمة المباركة؛ إذ ماتَ ساجدًا لله رب العالمين. رحم الله الشيخ.. ورحم الله دعوتَه..ورحمنا مما نعانيه من أغلب خطباء هذه الأيام!!








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة