فى خضم الأزمة الروسية الجورجية، قرأت مقالا للرئيس السوفيتى الأسبق ميخائيل جورباتشوف فى "الجارديان البريطانية"، يتحدث عن رؤيته وخبرته فى الأزمة. بصرف النظر عن رأيه، فإن الحقيقة المؤكدة أن الرجل لم يختف عن الحياة العامة طيلة السنوات الخمس عشرة الماضية، التى أعقبت زوال الاتحاد السوفيتى، وظل له حضور فى المنتديات الفكرية والثقافية العالمية.
فى حوار مع صديق لى منذ أيام، حاولت أن أتذكر اسم وزير المالية الأسبق ففشلت. والسبب أن الذاكرة لا تحتفظ- فى العادة- إلا بأسماء الأشخاص المؤثرين، الذين لهم بصمة فى الحياة العامة. فى الحياة السياسية المصرية هناك أشخاص يصعدون ويهبطون، لا أحد يعرف من أين أتوا؟ وإلى أين سوف يذهبون؟.
سؤال كثيرا ما يراودنى: لماذا يظهر السياسى المسئول فى المجتمع الغربى، نتيجة "حراك اجتماعى وسياسى"، ويظهر فى المجتمع المصرى مرتبط فقط بالمنصب السياسى، فإذا زال، والله وحده له الملك والدوام، ينزوى الشخص، ويعتريه النسيان. لهذا السبب، فإن الشخص المسئول فى كل موقع، صغر أم كبر، يرتبط بالكرسى الذى يجلس عليه، ولو كان فى الإمكان لثبت نفسه عليه بغراء شديد، لا يمكن إزالته. بالتأكيد، هو بدون المنصب بلا حضور عام أو نفوذ أو تأثير. الشعور صعب، جسده أحمد زكى فى فيلم "معالى الوزير" بأحد الكوابيس التى كانت تطبق على نفسه، حين وجد الحرس ينصرفون من أمام بيته، وتحول- بقدرة قادر- إلى شخص عادى.
فى الغرب، يصنع الشخص تاريخه، وإسهامه، بصرف النظر عما إذا كان سيتولى منصبا من عدمه. فإذا حصل على منصب، وتركه، فإن الأمر لن يمثل بالنسبة له الكثير، طالما أن عطاءه وتاريخه معروف فى مجال نشاطه أو تخصصه. بالتأكيد أشخاص فى وزن "نيلسون مانديلا" أو "جورباتشوف" أو حتى على مستوى أقل "تونى بلير"، بصرف النظر عن الاختلاف فيما بينهم، يشكلون نماذج لأشخاص لهم حضور خارج المنصب أو داخله.
المشكلة الحقيقية نحن فى مجتمع يصنع فيه المنصب الشخص، وليس العكس. وبالتالى يظل الولاء المطلق لصاحب القرار الذى أتى بالشخص إلى الموقع، لأنه يعرف فى قراره نفسه أنه ليس أهلا له، وبقاؤه فيه رهن بالرضاء السامى عليه. هذه هى القضية بوضوح، أن الموقع يعطى مجاملة، وتأكيدا للولاء، وليس تعبيرا عن اختيار لأفضل العناصر على قاعدة الكفاءة. من هنا قد نستغرب، والاستغراب فى هذه الحالة لا محل له، أن يحكم كثير من الناس على مسئول بالفشل، فى حين يظل فى مكانه، وإذا غادره يخرج كريما، محاطا بعبارات الإطراء والمديح على دوره "الوطنى" وتحمله "المسئولية التاريخية".
لا يعبر هذا الأمر عن انحراف فى مسار السياسة، قدر ما يعبر عن نمط من الحياة السياسية فى المجتمع المصرى يقوم على "الولاء الضيق"، الذى لا ينتظر من الموالين سوى الولاء، ومن المعارضين الاحتجاج فى حدود المسموح.
بالتأكيد هناك أشخاص يتذكرهم المجتمع، وأحيانا يبكى فراقهم، مثل الوزير أحمد رشدى، والجويلى، وحسب الله الكفراوى، وآخرين ممن كان لهم دور إيجابى، وبعضهم لا يزال مشاركا فى الحياة العامة، ولا يصمت.
أتساءل: أين السيد كمال الشاذلى؟ أعرفه، ويعرفه كل مصرى بأحاديثه، وأدائه البرلمانى، وتوليه الوزارة لعدة سنوات. اليوم هو على قمة "المجالس القومية المتخصصة"، لماذا لم يعد له صوت مسموع فى الصحف، مثلما كان فى السابق؟ أين الأحاديث، والحوارات، والمعارك....؟
أتساءل: أين الدكتور يوسف والى؟ فإذا لم يكن وزيرا للزراعة، فهو على الأقل خبير سياسى وفنى؟، لماذا لا نسمع له رأيا فى الحياة العامة؟ هل صمته اعتزالا أم اعتكافا أم فرض واجب.
أين وزراء أثروا فى حياة المواطن سلبا فى الغالب، مثل الرزاز، والدرش، والدميرى، الرفاعى، الجندى، وغيرهم كثر.. لماذا لم نعد نسمع لهم صوتا؟، لماذا لا يشاركون فى الحياة السياسية، أليس هم وزراء سابقون، أى تولوا أرفع المناصب السياسية؟.
تأمل حالات سياسية مختلفة فى الحالة المصرية تحمل الشخص إلى التفكير مليا فى العبارة التى أطلقها الدكتور بطرس غالى- فى حواره للمصرى اليوم- بأنه لن يعتزل... ربما لأنه يعرف ثمن الاعتزال الطوعى أو القسرى!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة