قبل هبوط الطائرة إلى أرض دارفور، هيأت نفسى لمشاهدة صور المعارك والقتال الدائر بين المتمردين والسلطات السودانية من شارع إلى شارع ومن حى إلى حى، وحاولت الاستعداد لرؤية الجثث والضحايا فى الشوارع وعلى جانبى الطرقات.
نيالا التى هبطنا إليها قبل قليل، نالت النصيب الأكبر من هجمات المتمردين وقفز اسمها فى وكالات الأنباء، باعتبارها منطقة صراع مسلح يتساقط فيها القتلى من بنى الإنسان.
خارج مطار المدينة المتواضع، تلفت حولى بحثاً عن قوة الحراسة التى سترافقنا والسيارة المصفحة التى تصحبنا إلى قلب المدينة، لم أرَ شيئاً من هذا القبيل، بل ركبنا سيارة تاكسى أقرب إلى "التوك توك" يطلقون عليها اسم "ركشة " وبعد 10 دقائق كنا بالميدان الرئيسى فى قلب نيالا.
الشمس كانت تستعد لوداع الأرض والبشر .. الأمور تسير بشكل طبيعى .. على طول الطريق لم أشاهد أى شىء غير عادى، هناك أطفال يلعبون كرة القدم، الناس تتزاحم على دار سينما متهالكة تعرض الأفلام الهندية والمصرية القديمة، الأسواق مزدحمة وكذلك المقاهى .. كان علىَّ أن أنتهى من كل اللقاءات قبل العاشرة مساء، موعد حظر التجوال الذى قرره حاكم الولاية.
الأجاشى كانت أول وجبة تناولتها فى مطعم مفتوح بأحد شوارع المدينة .. والأجاشى هو عبارة عن لحم ضأن مشوى "متبل" بطريقة خاصة، يحفظ أسرارها أبناء قبيلة "الهوسا" الشهيرة. وبالصدفة المطعم كان يقع بجوار منزل الدكتور على الحاج الساعد الأيمن لزعيم حزب المؤتمر الشعبى الدكتور حسن الترابى، بالمناسبة الترابى يتمتع بسيطرة فكرية طاغية على قادة التمرد فى دارفور، فليس صدفة إذن أن يتزامن تسخين وتصعيد ملف دارفور مع النهاية الدرامية للتحالف بين الترابى والبشير، هذه النهاية التى كانت نتيجتها اعتقال الأول، وانفراد الثانى بالسطة فى البلاد.
المتمردون فى دارفور عبارة عن فريقين هجين، الأول إسلاميين متعاطفين مع الترابى يقودهم الطبيب خليل إبراهيم تحت راية حركة العدل والمساواة، والثانى علمانيين يتزعمه المحامى عبد الواحد محمد نور، فى إطار حركة تحرير السودان المدعومة من الجيش الشعبى فى جنوب السودان.
دارفور تبعد حوالى ألفى كيلو متر عن العاصمة الخرطوم، ولا يوجد طريق يربط الإقليم بالعاصمة، وعلى الراغب فى الانتقال من دارفور إلى الخرطوم أن يخوض مغامرة، إما عبر القطار الوحيد الذى أقامه المحتل الإنجليزى فى مطلع القرن الماضى، القطار يقطع المسافة من الخرطوم إلى دارفور فى حوالى أسبوع فى الأوضاع العادية!! أما الطريقة الثانية المتاحة للسفر فهى الشاحنات الضخمة التى تشق الصحارى والمستنقعات لعدة أيام متواصلة، وفى صندوقها يتجمع عشرات المسافرين الذين يصبحون هدفاً سهلاً لقطاع الطرق الذين يعيشون على تجريد المسافرين من أمتعتهم، مهما كانت بساطتها.
مسئول حكومى قال لى إن الدكتور على الحاج استولى على الملايين المخصصة لإنشاء طريق الغرب، الذى كان مقرراً أن يربط الخرطوم بدارفور قبل أن يهرب للخارج.
على ارتفاع منخفض حلقنا بطائرة مروحية فوق عدد من القرى والمدن القريبة من نيالا، التقينا فى أكثر من موقع، أهالى تلك القرى، بعضهم دفع ثمناً باهظاً لانطلاق غارات المتمردين من قراهم، وبعضهم الآخر اشتكى بمرارة من إهمال ونسيان الحكومة لأبسط مطالبهم الضرورية.
الزراعة هى الحرفة الأساسية لأغلب السكان، ثم يأتى الرعى فى المرتبة الثانية، حيث تتوفر فى دارفور ثروة حيوانية ضخمة، تكفى لسد حاجات مصر ودول شمال أفريقيا من اللحوم وفى باطن أرض الإقليم تسكن العديد من الثروات المعدنية المتنوعة، تبدأ بالحديد وتنتهى بخام اليورانيوم والبترول.
القبائل العربية تمتهن الرعى والترحال، بينما باقى القبائل الأفريقية يعمل أغلبها فى الزراعة والعلاقة بين الرعاة والمزارعين فى توتر دائم، بسبب هجوم قوافل الرعاة على محاصيلهم فتنشب بسببها صراعات مسلحة، بعضها يتنتهى بالصلح والتعويض، فيما يتحول بعضها الآخر إلى خصومات قبلية تتوارثها الأجيال.
حلقنا فى سماء دارفور واقتربنا من موقع مظلم، سألت عنه قائد الطائرة فأجاب: أنها منطقة محظورة وغير مسموح لنا الاقتراب منها لأسباب فنية، عرفت بعد ذلك أن السبب أمنى بالدرجة الأولى، هذه الكتلة المظلمة عبارة عن معجزة طبيعية إنه جبل "مَرْة"، بفتح الميم وتسكين الراء، هذا الجبل كان واحداً من أكثر الأماكن سحراً وجمالاً ليس فى دار فور فقط بل فى السودان كله.
الجبل يفصل بين حدود السودان وتشاد وليبيا، ارتفاعه حوالى ألفى متر طوله 180 ك وعرضه يزيد على 70 ك، يتمتع بمناخ البحر الأبيض المتوسط وفوق مدرجاته، تعيش قبائل لم ينزل أبناؤها من قبل إلى الوديان، قصص وحكايات سكانه من قبائل الفور تفوق فى غرابتها ما ورد بحكايات ألف ليلة وليلة.
المتمردون حولوا الجبل إلى موقع عسكرى حصين لا تستطيع الحكومة ولا أجهزتها الوصول إليه بعد أن سيطروا على مداخله الرئيسية، ووضعوا أيديهم على مساراته وقممه الاستراتيجية، أغرتنى أساطير جبل "مَرْة"، فقررت الوصول إليه.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة