انتهى الفريق العربى للحوار الإسلامى المسيحى- منذ أسابيع- من إعداد وثيقة "للاحترام المتبادل بين أهل الأديان"، استمر الجدل حولها نحو عامين ما بين القاهرة وبيروت، وشهدت مناقشات حامية حول بعض الصياغات، إلا أنها فى النهاية أنجزت، وظهرت إلى النور. والفريق العربى للحوار الإسلامى المسيحى تأسس منذ سنوات، ويرأسه القاضى الدرزى عباس حلبى، ويتولى القس الدكتور رياض جرجور منصب الأمين العام له، ويضم مفكرين من شتى أنحاء العالم العربى، مثل الدكتور محمد سليم العوا، طارق البشرى، محمد السماك، وهانى فحص وسمير مرقص وآخرين.
تدعو الوثيقة أهل كل دين لعدم الخوض فى عقائد الطرف الآخر علنا وجهرا فى المنابر العامة، مما يشجع العوام على الإساءة إلى بعضهم بعضا. غاية المراد هو الوصول إلى ميثاق أخلاقى بين المسيحيين والمسلمين، يتعهد فيه كل طرف باحترام الآخر، وعدم الإساءة إليه. بالطبع هناك ضرورة موضوعية للوصول إلى هذا الميثاق بعد أن سارت العلاقات الإسلامية المسيحية إلى منحدر خطير، من جراء تجرؤ البعض من الجانبين على عقائد بعضهم بعضا، وتفشى السجالات العقائدية، وادعاء البطولة الزائفة فى النيل من إيمان الآخرين بالطعن والإساءة.
ولكن القضية الأساسية والمحورية هى تعريف ما المقصود بالمقدس الذى لا يجب أن يطوله النقد، ولا يصح أن يتعرض إلى طعن أو تجريح. هنا تبدو المشكلة الملغومة التى قد تنسف هذه الوثيقة. البعض يتصور- وكثير منهم من الإسلاميين- أن نقد المشروع السياسى الإسلامى هو نيل من الإسلام ذاته. وكأن الأطروحات التى تقدمها جماعات الإسلام السياسى بمختلف أطيافها يجب أن تظل بعيدة عن النقد والتفنيد.
مشروعات بشرية نسبية تحولت إلى مقدس مطلق لا يجب على المسلم نقاشه، فما بالك بالمسيحى؟ ولم يسأل كثير من الإسلاميين أنفسهم ما فائدة تقديم مشروع سياسى إلى المجتمع إذا كان يعبر عن طرح "نهائى"، لا يطوله حوار أو نقاش؟ وما معنى أن يدعو الإسلاميون- وبالأخص- الإخوان المسلمين الأقباط ليل نهار إلى الانخراط فى هذا المشروع السياسى إذا كان غير مسموح لهم- أصلا- بممارسة النقد على ما يرد فيه من رؤى؟ التمييز بين السياسة والدين بهذا المعنى أمر لا غنى عنه للممارسة السياسة الديمقراطية. الإسلام دين وعقيدة، أما المشروع الإسلامى فهو منتج بشرى يعبر عن قراءة أصحابه للإسلام، يتعرض للنقد والمراجعة. لا يقبل على عواهنه، ولا يستقيم دعوة الناس إليه "معصوبى العينين" و"مغلقى العقل" أو"مستسلمين وجدانيا". وإذا أراد أصحاب هذا المشروع تطويره فلا يكون ذلك إلا من خلال ممارسة النقد لكل جوانبه، ووضعه تحت مجهر الدراسة والنقاش. أما إضفاء العصمة السياسية أو الدينية عليه، فلن يؤدى إلا إلى حالة من الجمود، والصمت الاضطرارى.
بعض المفكرين الإسلاميين يدركون أهمية التمييز بين ما هو سياسى نسبى وما هو دينى مطلق، ولكن الكثير ممن يحملون راية الإسلام السياسى يرون أن الاحتماء "الشكلى" فى الدين هو السبيل لحماية مشروعهم السياسى، فيكونون بذلك أشبه بمن حكم على مشروعه بالفشل، ودعا الآخرين إلى الابتعاد عنه.
وبنفس المنطق، فإن بعض المسيحيين يرون فى أى نقد يوجه إلى المؤسسة الكنسية نيلا من "المقدس" الذى يؤمنون به، فى حين أن الواقع يشير إلى أن المؤسسة الدينية، بحكم التعريف، هى كيان مؤسسى، بشرى، يفعل الصواب، وقد ينتج عنه تصرفات محل نقد. ولا غرو فى نقد الخطأ تصحيحا له، ودعوة لتطويره.
نحن فى مجتمع يزحف فيه "المقدس" على الحياة العامة بشكل مخيف، الكل يريد أن يرى نفسه فى مربع المقدس، الذى لا يطوله النقد. وبمرور الوقت، تموت ملكة النقد، وتختفى القدرة على ممارسته. هذا هو سبب انحطاط أى مجتمع بشرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة