رغبتى فى صعود جبل "مرة"، أحد أهم معجزات الطبيعة فى إقليم دارفور بغرب السودان، تحطمت على صخرة الرفض القاطع من الجهات الحكومية، وبعض قادة القبائل لإتمام هذه الزيارة، سبب الرفض أن المتمردين يتشككون فى نوايا أى "عربى" قادم من الخرطوم، رغم ترحيبهم بالصحفيين الأجانب الذين نجحوا فى الوصول إلى مخابئهم المحصنة بقلب الجبل، إلا أننى كنت أطمح فى الاستماع لقادتهم، وإلى التعرُّفِ على استراتيجيتهم فى الصراع المسلح مع السلطة المركزية.
حاولت تعويض حرمانى من الصعود للجبل ومحاورة المتمردين، بلقاء بعض قادتهم فى القاهرة، حيث جمعنى حوار طويل مع الدكتور خليل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة، "وهى أقوى حركات التمرد وأكثرها تنظيماً وتسليحاً، كما أنها أقربها إلى الدول العربية، خصوصاً مصر وليبيا والسعودية".
فى ذلك الحوار، شرح لى خليل إبراهيم رؤيتهم للصراع الذى يركزون فيه على تقويض النظام العسكرى فى السودان، والبدء فى إجراء مصالحة تشمل جميع الأقاليم، وتقوم على مبدأ التوزيع العادل للثروة والسلطة فى عموم السودان، واعترف لى بأنه المؤلف الحقيقى للكتاب "الأسود"، الذى يعتبره المتمردون دستوراً يبرر صدامهم مع الحكومة التى حالت دون مشاركتهم فى السلطة، وحرمتهم من الاستمتاع بثروة بلادهم، كما نفى زعيمُ العدل والمساواة ما يتردد بشأن عدائه، هو وجماعته، للعرب والثقافة العربية أو سعيهم للانفصال عن السودان.
وفى بيت آمن بالخرطوم، ووسط إجراءات أمنية مشددة، جمعنى أحد الإعلاميين السودانيين، بالشيخ موسى هلال زعيم ميليشيا الجنجويد، وشيخ قبيلة "المحاميد" كبرى القبائل العربية الرعوية فى إقليم دارفور.
موسى شاب فى منتصف الأربعينيـات، فارع الطول، يميل إلى السمرة، يشبه أبناء صعيد مصر فى ملامحه وشخصيته، وهو أيضاً أحد المطلوبين دوليّاً فى قضية دارفور، الشيخ هلال تربطه بالسلطة علاقة طيبة، تعرض لأكثر من محاولة اغتيال على أيدى المتمردين، كلها باءت بالفشل بسبب حراسته الشخصية، المكونة من خيرة شباب قبيلته، وحرصه الدائم على التحرك وسط موكب سيارات مصفحة، بجانب تدريبه الشخصى على استخدام جميع أنواع الأسلحة.
كنت متوتراً قلقاً قبل اللقاء، بسبب ما سمعته عن جرائم الجنجويد التى لعب بها الإعلام الغربى بطريقة مثيرة، بعيدة عن الواقع.
زعيم الجنجويد كان ودوداً فى اللقاء، وأصر على أن يتحدث باللهجة المصرية، وضحك كثيراً عندما عبرت له عن قلقى من اللقاء، بسبب ما سمعته عن جرائم أتباعه، أوضح أن تلك القصص تحوى مبالغات كبيرة من جانب الإعلام الغربى، لإلصاق أى جريمة تقع على أرض دارفور بالقبائل العربية.
بالمناسبة "الجنجويد" مصطلح يطلقه العامة على قطاع الطرق والبلطجية، وإن ظروف الجفاف وندرة الأمطار ونقص الموارد دفعت الكثير من أبناء قبائل الإقليم، إلى اللجوء إلى هذه الوسيلة بهدف توفير الطعام وتدبير متطلبات الحياة، ونفس التفسير،تقريباً، سمعته من وزير الشئون الإنسانية أحمد هارون، فى لقاء مطول بمكتبه فى الخرطوم.
الوزير هارون هو ثانى رجل تطلبه المحكمة الجنائية الدولية، بتهم ارتكاب جرائم حرب فى دارفور بعد القائد الجنجويدى على كوشيب.
حاصرتنى الحيرة، فيما سمعته من المتمردين الذين يبررون قرار تمردهم على السلطة المركزية، رداً على ما اعتبروه عنصرية منها فى التعامل معهم، وتعمداً فى إهمال شئونهم، وعدم الاستجابة لمطالبهم بتوفير الحياة الكريمة واللائقة لسكان الإقليم.
أما فى الخرطوم، فقد كان الموقف مختلفاً، إذا ألقى المسئولون الكرة فى ملعب المتمردين، وسألنى مسئول رفيع المستوى عما كان مطلوباً من الحكومة فى الرد على تمرد دارفور المسلح، هل كان بوسع أى حكومة عربية أو غربية أن تتفاوض مع مجموعات مسلحة تستهدف أمنها القومى!؟
وأنا فى طائرة العودة، بعد رحلة شاقة إلى أحدث الجراح العربية النازفة، تملكنى شعور باليأس مما شاهدته، وسمعته خلال تلك الرحلة، تجنّبْتُ مناقشة السبب المباشر الذى فجر أزمة دارفور؛ لأنه ، ببساطة، يرجع إلى خصام الحكومة السودانية القائمة مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو الأمر الذى تتساوى فيه مع أغلب أنظمة الحكم العربية.
لكن الأمر الذى ضاعف من قلقى، ذلك الإحساس بأن السودان مقبل على مرحلة جديدة من المتاعب والقلاقل، يبدأ فصلها الأول مع الانتخابات الرئاسية العام المقبل 2009، وأتوقع أن تصل إلى ذروتها فى عام 2011 "موعد الاستفتاء على انفصال الجنوب وفقاً لاتفاقية نيفاشا للسلام".
أما المدهش حقاً، فهو أن مصر فى وادٍ، والسودان ومتاعبه فى وادٍ آخر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة