فى الخبرة المصرية، خاصة فى العشرين عاما الأخيرة، ظهرت حالة فريدة هى "البيانات الموقفية". ويعتبر "الشأن القبطى" أحد أهم المجالات التى يكثر بشأنها البيانات. يعنى ذلك أنه فى كل موقف يظهر فيه تباين وجهات النظر، وينشط فيه دور العامل الخارجى، ولاسيما لو كان "أقباط المهجر" فى الصورة، تنبرى مجموعة من المهتمين بالشأن العام لإصدار بيان يسجلون فيه موقفهم الرافض للتدخل الخارجى، والداعى إلى حل الهموم القبطية فى الداخل على أرضية المواطنة الكاملة. وعادة ما يعترى البيان تراب النسيان بمجرد صدوره، ونشره فى وسائل الإعلام.
هناك نشطاء فى الحياة العامة لا يعرفون سوى صناعة البيانات، أو هكذا كانت شهرتهم الأساسية. لو سألتهم- اليوم- كم بيان وقعوا عليه؟ العدد فى الليمون كما يقال. فى البداية كنت أشعر بابتزاز نفسى وعاطفى، أوقع على أى بيان يدس بين يدى. هذا قس أمريكى يهاجم الإسلام، وهذا قبطى مهجرى يطالب بالتدخل الأجنبى، وهذا قانون أمريكى للتحرر من الاضطهاد الدينى.. أين الوطنية؟ بالتأكيد هى فى البيان" نرفض... نشجب... نحذر...."، ولكن بعد فترة اكتشفت أنه من خلال البيانات المتلاحقة نخدع أنفسنا قبل أن نخدع الآخرين. فقررت أن أكف عن التوقيع عن البيانات، ويكفى المؤمنين شر الكتابة. لمن نريد أن نؤكد وطنيتنا؟
نرفض القانون الأمريكى اليوم، وغدا نجد بعثات تقصى الحقائق من الكونجرس والخارجية الأمريكية تجوب البر والبحر بتأشيرة دخول حكومية.. نرفض مواقف بعض أقباط المهجر، وغدا نرى مايكل منير يدلل حكوميا، وتفتح له قاعة كبار الزوار. حالة من حالات الاستجداء السخيف تمارس لإسكات أو تحييد الأصوات الزاعقة فى المهجر، نقول لا لقس يهاجم الإسلام، ولا نسمع أحدا يسكت الأصوات التى تطعن فى المسيحية، وما أكثرها. أليس الإسلام دين مواطنين، والمسيحية دين مواطنين آخرين؟
بالطبع الشخص يجب أن يتخذ المواقف المبدئية التى تتفق مع مبادئه، لا ينتظر ردود أفعال من الحكومة أو من أى طرف آخر. عندما نقول إن الملف القبطى شأن وطنى، نقولها لأننا نعرف عمق هذا الملف الحضارى، وبعده الاستراتيجى. وعندما نقول لا للإساءة للإسلام، نفعلها انطلاقا من اقتناع أكيد بأن الطعن فى الأديان عموما يجرح مشاعر مواطنين، ويخلق البغضاء بين أبناء الوطن الواحد.
وبرغم ذلك، فإن المسألة أكبر من أن تكون مجرد بيان لإبراء الذمة، ولكن عمل وطنى جاد وحقيقى. عندما نقول لا للتدخل الأجنبى ولا نفعل شيئا داخليا لحل المشكلات الطائفية المزمنة، يعنى باختصار إعطاء شرعية للتدخل الأجنبى، وعندما نقول لا للإساءة للإسلام، ونغض الطرف عن الإساءة للمسيحية يعنى باختصار أننا نمارس نفاقا من النوع الردئ، لن يحترمنا أحد، ولن نؤثر فى أحد.
صفوة القول إن البيانات المتلاحقة تحولت- عمليا - إلى أحد أمرين: الأمر الأول: غطاء لسلطة تريد أن تظهر أمام الغرب بأنها أكثر ليبرالية من شعبها ونخبتها المثقفة. الأمر الثانى: ممارسة النفاق السياسى، حتى لو كان تحت لافتة الوطنية. ما أعرفه هو العمل الجاد على أرض الواقع. من يستطيع العمل فليعمل، وإلا فالصمت أفضل من بيانات إبراء الذمة فى وقت تحول فيه إبراء الذمة إلى تواطؤ سخيف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة