منذ بضعة أشهر، أصدر الفريق العربى للحوار الإسلامى المسيحى، ما يعرف بوثيقة الاحترام المتبادل بين أهل الأديان، صاغها الدكتور محمد سليم العوا، وخضعت لنقاش استمر عامين قبل إقرارها، وهى تتحدث بشكل عام عن حتمية الاحترام المتبادل بين المسيحيين والمسلمين، بحيث لا يمس طرف عقائد الآخر، ولا تطرح العقائد للنقاش فى وسائل الإعلام حتى لا يشجع ذلك العوام على الإساءة لبعضهم البعض..
بالطبع هى وثيقة أخلاقية يلتزم بها من يتبناها، لكنها تمثل خطوة مهمة على طريق وقف حملات الإساءة المتبادلة على الجانبين.
من هنا، فإننى أتفهم مشاعر الانفعال والغضب التى تلف الزملاء المسلمين عندما يتطاول أحد على عقيدتهم، أشاركهم هذه المشاعر، وأعتبر أن الإساءة للإسلام، لا تعبر عن روح مسيحية حقيقية، فضلاً عن أنها لا تنم عن مشاعر وطنية خالصة تجاه شركاء فى وطن واحد، من هنا فإن الرفض والاستنكار لأى تطاول أو طعن أو تجريح فى الإسلام، سواءً صدر عن القمص زكريا بطرس، أو ما يعرف بالأب يوتا، أو أى شخص آخر، فهو محل استنكار.. لا ريب فى ذلك. وبالمناسبة هذه ليست المرة الأولى التى أردد فيها هذا الخطاب علناً وصراحة.
أتصور أن هذه الكلمات واضحة فى المعنى والمبنى، لا تحمل التفاتاً أو غموضاً، أو تبريراً مستتراً، ولعلى بذلك أكون قد هدأت بعض الشىء من مشاعر الغضب التى تؤرق الزميل الصحفى هانى صلاح الدين، وهو معروف بحماسه الشديد، وانفعاله فى المواقف التى يتصور فيها أنه على حق، والآخرين على خطأ.. فى هذه القضية- تحديداً- أى الإساءة للإسلام، انفعاله مفهوم، ومقدر، وله كل الحق فيه.
ولكن ليسمح لى الزميل هانى صلاح الدين بالاختلاف معه، وهو أمر اعتدنا عليه، دون أن يمس ذلك مشاعر التقدير المتبادل بيننا.. هل القضية بالنسبة له هى الإساءة للإسلام؟ أم المساجلات العقائدية المتبادلة التى تطعن فى الأديان.. تحديدا الإسلام والمسيحية؟
إننى أتفهم غضبه تجاه من يمس الإسلام بسوء، ولكنى لا أفهم صمته تجاه من يفعل نفس الشىء تجاه المسيحية.. عندما يصف الدكتور زغلول النجار الكتاب المقدس "بالكتاب المكدس"، أو يصفه بأنه "كشكول جمعه اليهود للنصارى"، أو أن "الكتاب المقدس لا يقارن فى هزاءته وبذاءته بالقرآن الكريم"....الخ.
هذه مقتطفات مأخوذة من صحف، وإذا أراد الزميل هانى صلاح الدين، وكل من يشغله أمر هذا الوطن المزيد منها، فليعود إلى البحث الموثق الذى قمت به بعنوان "العقيدة المسيحية فى الإعلام والتعليم"، وهو منشور فى كتاب بعنوان "الأديان وحرية التعبير" صادر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
رغم أن الدكتور زغلول النجار، وكثيرين غيره بالمناسبة، ينشرون هذه الأحاديث الصادمة، والجارحة فى حق المسيحية والمسيحيين فى منابر إعلامية سيارة، لم ينبر كثير من الزملاء المسلمين، وبالأخص الإسلاميين، إلى تسجيل موقف نقدى واضح وصريح تجاه ما يجرى، حرصاً على مشاعر شركاء لهم فى الوطن، وتقديراً بأن مثل هذا المنطق يضر بالوطن وأهله..
نسمع انتقادات فى الغرف المغلقة، والأحاديث التليفونية، واللقاءات العابرة، ولكن لا يمتد النقد إلى ما هو أبعد من ذلك.. والسبب- كما يتراءى لى- هو أن "اللحى لا تهاجم بعضها"، بصرف النظر عما إذا كان أصحاب هذه اللحى سلفيين أو إخوان أو خلافه، وإذا دار نقاش حول هذه القضية مع زملاء إسلاميين نسمع عبارات مطاطة، وهلامية، وهمهمات استنكارية، وتعبيرات غاضبة ترتسم على الوجوه، ولكن لا أحد يحرك ساكناً.
يبدو أن المنطق المستتر- الذى لا يفصح عنه أحد- هو أن الإسلام دين الأغلبية، صاحب المادة الثانية فى الدستور له كل احترام وتقدير، لا خلاف على ذلك بالمناسبة، ولكن المسيحية، ديانة الجماعة الأقل عدداً، لا تحتل مثل هذه المساحة من الاحترام.. أليست هى ديانة مواطنين، والمواطنة منصوص عليها فى المادة الأولى فى الدستور؟
لن أطيل.. فلا مجال لاستطراد فى قضية واضحة المعالم.. إننى أتمنى على الزميل هانى صلاح الدين أن يعيد توجيه حماسه وغيرته للدفاع عن موقف وطنى عام، هو وقف التطاول على الأديان "الإسلام والمسيحية"، وأن يتحلى بالشجاعة، وهو أمر معروف عنه، وأن يسجل انتقاداً صريحاً دون مواربة، أو تبرير للدكتور زغلول النجار على ما كتبه، ويكتبه فى حق المسيحية والمسيحيين. لكنى أرجوه ألا يفعل هذا إلا بعد أن يستوثق بنفسه مما يكتبه هذا الرجل، وقد أشرت إلى مرجع بحثى منذ قليل يمكنه العودة إليه، والتأكد مما ورد فيه، وأن يعطى لنفسه وقلمه مساحة للتدبر، وتقرير موقفه طالما أنه تصدى لهذه القضية الشائكة، التى تتعلق بمستقبل التلاحم والمواطنة فى هذا الوطن.
قد يدافع الشخص عن عقيدته، ولا مراء فى ذلك، لكنه دفاع على عكاز، يصفق له فقط أهل ديانته، وبنو جلدته، لكن عندما يدافع الشخص عن مبدأ أعم وأشمل، يشمل كل العقائد، فقد يجد قليلين هم المصفقون، لكنه الطريق الآمن الذى اخترت أن أمضى فيه، وأتمنى على الزميل هانى صلاح الدين أن يكون رفيق هذه الرحلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة