منذ بضعة سنوات ذهبت إلى أديس أبابا لحضور مؤتمر عن "التنمية فى أفريقيا"، الفندق عبارة عن محمية "صناعية" خلابة، إذا خرجت منها سوف تجد مئات الجوعى يفترشون الشوارع، وفى يوم الأحد قررت أن أذهب إلى إحدى الكنائس الشهيرة، وهى بالمناسبة أرثوذكسية، مما جعلنى أسعى لاكتشاف تراث كنيسة الحبشة .. مئات، ولا أبالغ، الشحاذون كانوا يحتلون حوش الكنيسة، إلى الحد الذى جعلنى أشعر بانقباض شديد. اقترب منى شخص، عله عرف من ملامحى أننى أجنبى، وعرض على أن يعرض لى مقتنيات المتحف الموجود بالكنيسة .. ذهبت معه، ودفعت مبلغاً لا أتذكره، ومبلغاً آخر له نظير جهوده، وكل مقتنيات المتحف كانت عبارة عن تابوت الملك منليك.
هذه هى أثيوبيا التى يمتد منها نهر الفقر إلينا .. أخشى أن تصبح القاهرة يوماً مثل أيس أبابا. الشحاذون يكثرون فى رمضان، آملاً فى البركة. ولكنى لم أتوقع أن يتظاهر المصريون أمام سفارة دولة قطر بحثاً عن بضعة جنيهات، نفحة من جناب السفير، وفى السابق كان الباحثون الاجتماعيون يشكون وينتقدون نظام "الكفيل" فى الخليج، بوصفه عبودية مقنعة، ونسمع كل يوم عن مصريين تهان كرامتهم فى دول الخليج، ولا تستطيع حكومتهم "النظيفة" أن تفعل شيئاً .. اليوم يهان المصريون فى بلدهم، يتظاهرون أمام سفارة قطر، ويضطر الحرس للتعامل معهم بغلظة وجفوة، بالهراوت وخراطيم المياه، ويصل الأمر إلى حالة من التصعيد، إلى أن تكرم جناب السفير، وأعطاهم نفحة من كراماته، من ماله الشخصى- حسبما ورد فى الأخبار- وليس من المال العام.
نشكر السفير القطرى بالطبع على كرمه، لكنى أستغرب كيف مر الموضوع مرور الكرام، لم ينتفض له كثيرون باستثناء بضعة مقالات هنا أو هناك .. لا أعتقد أن الحكومة المصرية سيكون لها "عين" تنتقد بها قناة الجزيرة فيما تبثه من انتقادات لمصر، لأنها ببساطة قطرية، والمصريون يذهبون للعمل فى قطر، ويتظاهرون أمام سفارتها فى القاهرة بحثاً عن "نفحة رمضان".
المشكلة ليست حكومية فقط، ولكن فى رجال الأعمال البخلاء الذين ابتلينا بهم .. لا يتحملون مسئولية إجتماعية إلا فى أضيق الحدود، وفى يوم قلت لأحد "كبار" رجال الأعمال إن هناك مسئولية اجتماعية تقع على الرأسمالية المصرية، فانتفض غاضباً وقال لى "بلاش الكلام الاشتراكى"، قلت له: هذا ليس كلاماً اشتراكياً، لأن مفهوم المسئولية الاجتماعية نبت فى الغرب .. انظر كيف تبنى المستشفيات والجامعات، وينفق على المشروعات الاجتماعية فى أعتى الرأسماليات الغربية، حتى تعرف ماذا يعنى أن يكون الرأسمالى متحملاً مسئولية تجاه المجتمع الذى يعيش فيه.
بالطبع لم يعجبه كلامى، وكيف يعجبه هذا الكلام، وبين ظهرانينا رجال أعمال يدفعون مليارى دولار لاغتيال ممثلة، أو يشترون أحزمة من ذهب أو أحجار كريمة لراقصة، أو ينفقون الملايين على حفلات أعياد الميلاد، وسهرات "الأنس" وخلافه.
هناك شخص أراه بنفس الهيئة منذ أكثر من 15 عاما، يقف فى شوارع وسط القاهرة يقول: تبرعوا لبناء مسجد، أعطوا مما أعطاكم الله .. المال مال الله، والبيت بيت الله، بالطبع رغم كل هذه السنوات يبدو أن المسجد لم يبنَ بعد، هذه ليست القضية، ولكن تعجبى عبارة "المال مال الله"، ليتهم يعرفون ذلك، ربما يدفعون بالدين، طالما أن الكلام عن المسئولية الاجتماعية يؤرقهم .. المهم يدفعوا، حتى لا يزداد عدد المتظاهرين أمام السفارات الأجنبية ليس بحثاً عن تأشيرة، ولكن عن رغيف خبز.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة