فى مناظرتهما الأولى بجامعة أوكسفورد، كشف المتنافسان على مقعد الرئاسة فى المكتب البيضاوى عن العناوين الرئيسية للمعركة الانتخابية، التى ستضع أوزارها فى نوفمبر القادم عندما يعلن فوز المرشح الديمقراطى باراك أوباما أو المرشح الجمهورى جون ماكين. ومع الاعتراف بأن المناظرة الأولى لم تأت بجديد فى موضوعاتها التى تناوب المرشحان على تناولها، إلا أنها لم تخل من المعانى والإيحاءات التى تستحق التوقف عندها.
ولعل أيسرها الانطباعات الشخصية التى خلفتها المناظرة، فقد ظهر جون ماكين بصورة أفضل من تلك التى يمكن افتراضها لرجل عجوز يشهد تاريخه السياسى بتسرعه وتهوره، كان يناور ببراعة ويدافع بوضوح عن برنامجه الانتخابى، فيسهب ويهاجم عندما يتصل النقاش بمآل الحرب ضد الإرهاب فى العراق وأفغانستان، ويقتضب موجزاً عندما يتناول الأزمة المالية وسبل الخروج منها، بدأ الرجل بالفعل كثعلب عجوز رابط الجأش.
أما باراك أوباما، فقد برهن على أنه ليس بالشاب اللغز الذى يمكن التشكيك فى خبراته السياسية، هاجم بضراوة برنامج وريث بوش، واستغل لأبعد مدى الأزمة المالية التى تعصف بالاقتصاد الأمريكى لإحراج منافسه. ببساطة كان أوباما يخاطب المواطن الأمريكى من الطبقة المتوسطة أكثر مما كان يجادل جون ماكين، لذا انتقد الحرب فى العراق من زاوية استنزافها مليارات الدولارات التى كان من المفترض توجيهها لتحسين التأمينات الطبية، وهاجم سياسة الجمهوريين الاقتصادية، مركزاً على محاباتها الضريبية لكبار الرأسماليين.
بدا باراك ملما بالسياسة الخارجية لواشنطن، وصقراً أيضاً فى مواجهة خصوم إدارة بوش، الإرهاب وروسيا وإيران، لم يفقد الرجل تعاطف الطبقة الوسطى المعنية بزيادة الرواتب ورفع مستوى الخدمات التعليمية والصحية، وبنفس القدر لم يثر مخاوف أو حفيظة الذين يعتبرون الحرب ضد الإرهاب ضرورة للحفاظ على أمن ومصالح الولايات المتحدة حول العالم.
حقيقة .. لم تؤشر المناظرة الأولى على رجحان كفة أى من المرشحين، ولكنها وهذا هو الأهم، فجرت نقاشاً حول مستقبل الليبرالية الجديدة، والتى طالما كانت محل اتفاق بين برامج الحزبين الجمهورى والديمقراطى منذ رئاسة رونالد ريجان فى مطلع الثمانينات من القرن الماضى.
صحيح أن النقاش حول جدارة مقولات الليبرالية الجديدة لم ينقطع حول العالم فى الأوساط السياسية والأكاديمية، ولكنها المرة الأولى التى يكون دور الدولة فى مراقبة عمل الأسواق، والتخلى عن مبدأ تخفيض الضرائب على أصحاب الدخول الكبيرة موضع شد وجذب بين مرشحى الرئاسة الأمريكية. ولا جدال أن موضوع الليبرالية الجديدة قد تزعزت مكانته فى معبد الاقتصاد الحر، وبدأ الشك يتسرب لنفوس كهنته مع تصاعد الأزمة المالية فى وول إستريت، عقب انهيار سوق الرهن العقارى، وما لبثت همهمات التشكيك أن تصاعدت بعد انهيار وإفلاس رابع أكبر بنك تجارى فى الولايات المتحدة، وتداعيات ذلك فى الأسواق المالية العالمية.
وأخيراً .. كفر الكهنة وجدفوا عندما تجاهلوا الركن الركين لفلسفة الليبرالية الجديدة، والذى يقضى بعدم جواز تدخل "الدولة" فى عمل الأسواق، قدمت إدارة جورج بوش قرضاً بعدة عشرات من مليارات الدولارات لإنقاذ عملاق التأمينات AIG من الإفلاس، وسرعان ما طورت هذه الإدارة مشروعاً وخطة تتدخل بموجبها الدولة لمعالجة الأزمة المالية المستحكمة، وباتت الخطة موضوعاً يخوض الكونجرس فى مناقشة دقائق ودواعيه وكلفته فى تلك اللحظة الحاسمة فى حياة الليبرالية، من هنا جاءت مناظرة باراك وماكين، وكان الأخير حصيناً عندما حاول تجنب إجراء المناظرة فى هذا الوقت، آملاً فى أن ينقذ الإرجاء ما وجه الليبرالية الجديدة، فيتوصل الكونجرس لاتفاق حول خطة بوش للإنقاذ، ويمنح ماكين لسان صدق عليا فى مواجهة انتقادات باراك والمستهلكين الأمريكيين قبله. وبصفة عامة برزت فى المناظرة المواقف الجديدة للديمقراطيين الداعية لأن تقوم الدولة بدور أكثر فاعلية فى توجيه اقتصاد السوق.
ركز باراك أوباما على الفشل الذريع لسياسة بوش الاقتصادية، التى اعتبرها المسئولة عن الأزمة المالية بتركها (الحبل على الغارب) لأسواق المال دون رقابة أو تدخل فى أعمالها، إذ اكتفت بمشاهدة الكيانات الاقتصادية العملاقة، وهى تغالى فى حصد الأرباح والمضاربة دون أن تحرك ساكناً إلا بعد أن وقعت الكارثة.
وفضلاً عن المطالبة بإعادة الاعتبار ولو جزئياً لوظيفة الدولة الإشرافية، والتى كانت فى نظر الليبراليون الجدد (رجس من عمل الشيطان) يلوث نقاء الأسواق وشفافيتها، وهاجم باراك سياسة تخفيض الضرائب على أصحاب الدخول الكبيرة، وأيضاً السماح للشركات بتخفيض الرواتب إلى الحد الذى ألحق الأذى بمستوى معيشة الأمريكيين.
إنها عودة ما للإجراءات (الكنزية) التى عالجت بها أمريكا وأوربا الغربية الأزمات الدورية للنظام الرأسمالى، منذ أزمة الكساد الكبير فى مطلع العشرينيات من القرن الماضى.
ببساطة يدعو باراك إلى تطبيق حازم للضرائب التصاعدية، بحيث يدفع الأثرياء أكثر مما يدفع الفقراء من أجر توفير اعتمادات لبرامج الرعاية الصحية والتعليم، وتتدخل الدولة كمراقب لعمل الأسواق لكبح جماع "الجشع" ولضمان رواتب وأجور أكثر عدالة.
ولكن باراك يخلط هذه (الكنزية) بغير قليل من الواقعية البرجماتية عندما يتبين أقرار بعض الإعفاءات لأصحاب الدخول الكبيرة، من أجل تشجيعها على توليد الوظائف فى السوق الأمريكية. والحقيقة أن هذا الاتجاه الذى يمكن وصفه بالحنين للكنزية، ودولة الرفاة يجد له أنصاراً ليس فقط فى الحزب الديمقراطى بأمريكا، بل وأيضاً فى الاتحاد الأوروبى، وخاصة لدى الرئيس الاشتراكى لفرنسا ساركوزى.
وليس من قبيل المصادفة أن يقف الرئيس الفرنسى قبل عدة أيام من موعد المناظرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليحدث دول العالم ليس عن السلم العالمى، وإنما عن الأزمة المالية فى الولايات المتحدة وتأثيرها على الاقتصاد الدولى. وطالب ساركوزى أمريكا بالعمل من أجل حل أزمتها، ودعا لإعادة النظر فى القواعد التى تحكم عمل اقتصاديات السوق من أجل إنقاذ الإنسانية!!
إن موقف الرئيس الفرنسى وحده سيكفى لتفسير نهج الحزب الديمقراطى ومرشحه باراك أوباما، فالرئيس الفرنسى اشتراكى فى الداخل وليبرالى واستعمارى فى الخارج. إنه الأقرب لسياسات بوش التوسعية فى العراق وأفغانستان، وتلك السياسات الداعية (للجم) إيران النووية والتمكين لإسرائيل فى المنطقة العربية، إنه ببساطة مع الحرب خارج الحدود طالما أنها ضرورية لتأمين المصالح الرأسمالية فى المواد الخام والطاقة والأسواق المفتوحة، ولكنه فى ذات الوقت ينكر على الشركات العملاقة التى تعمل السلب والنهب حول العالم وتحصد الأرباح بوحشية، أن تقوم بذات هذه الأفعال فى أوطانها الأم.
نستطيع أن نفهم هذا المنطق الذى يبدو متناقضا عندما نبسط الأمر إلى مستوى القول، بإنه على الشركات العملاقة التى تستثمر أموالها حول العالم بحرية، أن تدفع كلفة حروب حمايتها وكفالة أرباحها واستقرار الأنظمة التى تنصاع طائعة أو مكرهة لمقولات الليبرالية الجديدة حول حرية التجارة والتحويلات المالية .. تدفع هذه الكلفة فى صورة ضرائب أكثر سخاء ومرتبات أكثر واقعية فى الدول الصناعية الكبرى.
وليس من قبيل المبالغة فى شئ أن نرى فى باراك أوباما، ساركوزى (من نوع ما)، فهو يدافع بحماسة عن الضرائب المتصاعدة والإعفاءات المقننة للاستثمارات وعن مراقبة الدول للأسواق وعن رفع الرواتب والأجور، وفى ذات الوقت لا يعارض الحروب فى الخارج، وإنما ينظر إليها من منظور حسابات الربح والخسارة الاقتصادية، بل إنه لا يكاد يفارق مواقف الجمهوريين فى المناطق الساخنة من أفغانستان إلى إيران والعراق والشرق الأوسط وحتى روسيا.
ومما له دلالته فى سياق المراجعات لمقولات الليبرالية الجديدة، أن إدارة بوش قد أيقظت الدولة من سباتها واستدعتها لتلعب دور المنقذ ليس للمستهلكين أو دافعى الضرائب، ولكن للشركات المالية الكبيرة، فدقت بذلك أول مسمار فى نعش هذه الليبرالية.
وجاءت أقوال ماكين فى المناظرة، لتؤكد على خطة الجمهوريين التى تناقض رؤية الحزب الديمقراطى بشكل واضح فيما يتعلق بأمرين رئيسيين: أولهما، نطاق تدخل الدولة، حيث يفضل ماكين أن يكون فى حدود إقالة عثرات الشركات بإقراضها من الخزانة العامة، وتوفير أجواء أفضل للنشاط الرأسمالى عبر الاحتياطى الفيدرالى بتغيير أسعار الفائدة أو التحكم فى السيولة النقدية المتاحة، والاختلاف هنا واضح عن دعوة أوباما لمراقبة نشاط الأسواق أو التدخل لكفالة أجور أكبر وأجزل.
والأمر الثانى، هو رفض ماكين لرفع نسبة الضرائب على الدخول الكبيرة، متعللاً بأن ذلك لن تكون له سوى نتيجة واحدة، وهى لجوء رؤوس الأموال الأمريكية إلى مغادرة البلاد للاستثمار فى دول تمتاز بانخفاض الضرائب على الأرباح، وبالتالى تنامى ظاهرة فقدان الوظائف فى السوق الأمريكية، وتوكيداً على عدم تراجعه عن سياسات الليبرالية، وبالتالى تنامى ظاهرة فقدان الوظائف فى السوق الأمريكية، وتوكيداً على عدم تراجعه عن سياسات الليبرالية الجديدة حمل ماكين تبعات الأزمة المالية على "الجشع" الذى انتاب بعض الشركات وليس على الأنظمة الاقتصادية السارية.
وهنا بدأ ماكين مدافعاً عن مصالح الكيانات الاقتصادية العملاقة، ولاسيما فى مجال الطاقة، فضلاً عن الصناعات الحربية، وهو يراهن عليها فى دعم حملته الانتخابية، خاصة فى ظل مساندته لبرنامج بوش "لتعويم" الشركات التى تواجه صعوبات مالية، ولكنه، أى ماكين، لم يطلب من أصحاب هذه الشركات أداء أى استحقاقات داخلية، ولديها عزف فى وقت لاحق على وتر الأخلاق بالدعوة صراحة للتخلى عن أساليب الجشع الرأسمالى، من أجل الحفاظ على المصالح المشتركة لركاب سفينة الإدارة الجمهورية من الليبراليين الجدد.
إنها مواجهة ستكتسب أبعاداً أكثر وضوحاً مع قدوم الأيام، وتوالى المناظرات بين أوباما وماكين، وبين ساركوزى الأمريكى، الذى يدعو (للكنزية) ما بعد الليبرالية الجديدة، إجراءات تعد الطبقة المتوسطة برخاء أكبر ولا تتوعد الشركات العملاقة، بل تدعوها لشراكة على أساس جديدة تفصل بين مسلكها فيما وراء البحار وسلوكياتها فى الوطن الأم، وبين الثعلب العجوز الذى يستخدم سلاح التخويف من الإرهاب لترويض الناخب الأمريكى للقبول بتدخل الدولة، من أجل تعويم اقتصاد السوق مؤملاً أن يقدر الأثرياء الأقوياء هذا الصنيع فيقللوا من غلواءهم ولو إلى حين.
ولكنها بالقطع تبقى مواجهة بين نهجين، قديم آفل ومتعثر وآخر صاعد وفتى، ولعل فى المفارقات العمرية بين ماكين وأوباما بعضها من المقابلة الموحية البالغة الدلالة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة