إسرائيل تنتفع من وجود الديكتاتوريات العربية فى مقاعدها، لأنها تعرف أن الاستبداد يعطل طاقات الأمم، وغياب الديمقراطية يحرم البلدان العربية من العقول والأفكار، وإسرائيل تريدنا هكذا بلا عقول وبلا أفكار.
الحرب على غزة لم تقتل الأطفال والنساء والشيوخ فقط، ولم تهدم القطاع المحتل على رأس سكانه فحسب، لكنها أطاحت أيضاً بآخر ما تبقى لنا من أحلام نحو الإصلاح السياسى، والحراك الديمقراطى فى المنطقة العربية، الآن كل شىء تم تأجيله فى جميع العواصم العربية، لا حديث عن الأزمة المالية العالمية، أو عن تأثير تراجع أسعار النفط على الاقتصاد، أو عن قضايا الفساد، أو عن مستقبل المجتمع المدنى، أو عن الاشتباكات اليومية مع قضايا الحياة من تعليم وصحة وإسكان، كل شىء متوقف، وكل القضايا مؤجلة لما بعد الحرب على غزة، أنت تعرف طبعا أنه ((لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)).
بعض الأنظمة العربية تشعر أنها تربح أكثر حين تندلع حروب عبثية كتلك التى تجرى فى قطاع غزة اليوم، لأنها تحصل على فرصة عظيمة بتأجيل كل القضايا الداخلية لصالح القضية القومية الأولى فى تحرير فلسطين المحتلة، ورغم أن هذه الأنظمة لا تقدم ولا تؤخر شيئا فى سبيل فلسطين، ولم تحرك ساكنا، ولم تطلق رصاصة منذ خيم علينا الاحتلال وحتى اليوم، فإنها رغم ذلك تهرول نحو المزايدات السياسية، وتنافق شعوبها بالتصريحات الساخنة التى لا يتجاوز تأثيرها الحناجر التى تنطق بها، دون فعل حقيقى على أرض الواقع، إنها الملهاة التى تلاعب بها الأنظمة العربية شعوبها، إنها المؤامرة التى يتواطأ فيها الجميع ليبقى المستبدون على كراسيهم إلى الأبد، وليبقى الاحتلال الإسرائيلى على الأرض إلى الأبد أيضا.
إسرائيل كانت دائما بمثابة العصا التى تهش بها الأنظمة العربية على شعوبها، لتأجيل الإصلاح السياسى، ودفن الديمقراطية، وتداول السلطة إلى الأبد. إسرائيل كانت التكأة التى تستند إليها الديكتاتوريات العربية فى تأجيل جميع ملفات الإصلاح، فإذا طالب الناس بالديمقراطية قالوا لهم إن العدو يقف على الأبواب، وإذا رفعت الجماهير أصواتها بالتغيير اعتبروا الجماهير خائنة، لأنها تصرف الأمة عن المعركة الأهم، وهى تحرير الأرض من الاحتلال، ثم إذا تأملت الصمت والسكون من حولك وسألت فى براءة: أين هى معركة التحرير يا سيدى؟! زاغت أعينهم وتاهت منهم الكلمات، ثم هتفوا بالروح بالدم نفديك يا غزة، أو بالروح بالدم نفديك يا فلسطين، إنهم لا يهتفون حتى تجتمع كلمتهم على أمر واحد، أو يعتصموا بقرار واحد، لكنهم يهتفون ليكون صوت المعركة وصوت الصراخ أعلى من صوت الحقيقة وصوت الواقع، إنهم يهتفون هربا من فرصة للتأمل، يهتفون لأنهم لا يملكون شيئاً أكثر من ذلك الهتاف لإلهاء الناس عن الحقيقة.
إسرائيل تنتفع من وجود الديكتاتوريات العربية فى مقاعدها، لأنها تعرف أن الاستبداد يعطل طاقات الأمم، وغياب الديمقراطية يحرم البلدان العربية من العقول والأفكار، وإسرائيل تريدنا هكذا بلا عقول وبلا أفكار، إسرائيل تريدنا متهورين ننجرف إلى الحرب وقتما شاءت هى، وننزلق إلى القتال فى الأوقات التى تخدم مصالحها السياسية أو العسكرية أو الانتخابية، لا تريد إسرائيل أمما واعية ديمقراطية حرة تعرف متى تقاتل ومتى تعلن الهدنة ومتى تنحاز إلى السلام، لكنها تريد قطعانا من الغوغاء يجرفها مغامرون إلى ساحات الموت دون أمل فى الانتصار، وحين تحين لحظة الأسئلة، لن تسمع إجابات أبدا، فقط ستسمع هتافا يقول (بالروح والدم) هتافات فقط، وكأنه لا رغبة لنا فى أن ننتصر، كأن قدرنا أن نبقى فى شوارع المظاهرات الغاضبة إلى الأبد، نهتف بالروح بالدم نفديك يا فلسطين، ثم تبقى فلسطين محتلة، وتبقى إسرائيل طاغية، وتبقى الديكتاتوريات العربية على مقاعدها.
إنها معادلة الهزيمة التى لن تتغير أبدا إلا إذا تغير طرفها الأول والأساسى، حين تنتهى الديكتاتورية، ويعلو الإصلاح السياسى، وتتحقق الديمقراطية سيكون النصر، أما ما قبل ذلك فلا أمل فى التغيير، ولا صوت إلا للهتافات، وسيبقى كل شىء مؤجلا إلى ما بعد الحرب على غزة، أو على جنين، أو على الضفة أو على خان يونس، كل شىء مؤجل لتحيا الديكتاتورية وتنتصر إسرائيل.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة