حتى لحظة إعلان وقف إطلاق النار على غزة كنت أعتقد أن العرب، باختلاف حساباتهم السياسية وتشتتهم، كان لديهم جميعا أولوية وحيدة واحدة ولو مؤقتة هى الوقف الفورى لشلال دماء الأطفال والنساء بأى ثمن. فأن يصل عدد الشهداء الفلسطينيين بعد عشرين يوما من بداية المجزرة الإسرائيلية على غزة إلى 1095 شهيدا، هذا أمر بشع ومفزع ولكنه من الناحية الأخرى رمز صمود لكل فلسطينى فى غزة وخارجها.
أما أن يكون نصف هذا العدد من الأطفال (335 ملاكا شهيدا) والنساء والعجائز فلا مجال للصمود, إنه أمر موجع ومضن ومبكٍ ومخزٍ لكل عاقل ومجنون ومؤمن وكافر ووطنى وخائن، ولكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك، فبعد إعلان وقف إطلاق النار مباشرة خرج سؤال على فضائية كالقنبلة، وللأسف على لسان أكثر مقدمى النشرة احتراماً، «ما الجدوى من وقف إطلاق النار!؟» ما الجدوى!!
ولم ير السادة السياسيون والمعلقون إلا الحسابات السياسية ومَن الخاسر والرابح حتى تذكر أحدهم بعد أكثر من ساعة أن الخاسر الأكبر فى هذه الحرب هو «المدنيون»، قالها سريعاً ولم يلتقط أحد الخيط وكأن الأطفال لاعبون بإرادتهم فى فريق خاسر! وكان هذا حال جميع الشاشات تقريباً.. حاولت الغوص فى مهنية التحليلات السياسية حتى ابتعدت عن الاهتمام الأول للشارع العربى الذى لم يهب لمناصرة حماس أو السلطة أو الدوحة أو الكويت إنما هبّ لجروح نساء غزة وجثث ملائكتهن.
ومن مفارقات اليوم التالى، أن المتحدث باسم الجبهة الشعبية التى رفضت وقف إطلاق النار كان يخطب: «الشعب الفلسطينى فى غزة واقف وصامد ولم ينهار!» بينما جاءت الصورة على الشاشة وكأنها تصفعه ليرى الواقع، كانت الصورة لرجل يحاول إنقاذ طفل من تحت الأنقاض، يرى وجه الجثة المتفحمة وعيناها مفتوحتان، يصرخ وينهار عصبياً، ينهار جسده ويسقط فيأتى من ينتشله هو وجثة الطفل!.
إذا تخيلت للحظات أن هذا العذاب يحدث فى بيتك فستلعن الصمود وتسب الانتصار العسكرى وتكره كل مسئول لايزال متمسكاً بكسب سياسى وأنت تدفن أطفالك ونساءك بيديك، أليس فى إنقاذ الأطفال مقصد واحد ومكسب كاف، ولو مؤقتا؟. إن مسئولية كل راع عن رعيته لا تسقط فى الحروب ولكنها تظل الحفاظ على أرواح أطفاله ونسائه؛ أو على الأقل المحاولة.
أما الآلة الإسرائيلية فهى ليست آلة «مسئولة» عن أطفال ونساء العرب هى آلة سفاحة «مدانة» بالإجرام والتعطش لدمائهم. وما الجديد فى ذلك؟ هل ننتظر حتى يشعر السفاح بمسئوليته الإنسانية؟! هذا عبث! ومن العبث أيضاً مطالبة الفصائل بالتوقف عن المقاومة. وقد تحمّلت الفصائل مسئولياتها بالفعل رغم المرارة السياسية لوقف إطلاق النار، وإلا كانت ستقول لأمهات الأطفال الذين قضوا: شكرا لمن فقدتن.. المهم أننا صمدنا!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة