قابلت الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر مصادفة على رصيف المترو، وبعد السلامات واكتشاف أننا لم نلتق منذ ثلاث سنوات، بادرته بالسؤال عن جديده وعن الشعر، فأخبرنى مباشرة بالجديد عن مهرجان الشعر العربى الذى ينظمه المجلس الأعلى للثقافة، وكيف أنه لم يستبعد أى شاعر مؤثر خاصة فى إطار قصيدة النثر.
كان "عم محمد" كما نناديه تحبباً، يبدو فى صورة المدافع عن مهرجان الشعر العربى على اعتبار أنه من الكبار فى لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة التى تنظم المؤتمر، وبادرنى قائلا: دلنى على شاعر قصيدة نثر غير موجود فى المهرجان، "أنت موجود وفتحى عبد الله ومحمود قرنى، فى كل أمسية شاعر تفعيلة وضيف عربى وشاعر عالمى، والبقية من شعراء قصيدة النثر اللى فى المؤتمر بتاعكم".
جاء المترو وركبنا عربة واحدة، والكلام موصول بيننا، ياعم محمد أنا لست معنيا بالحضور فى المهرجان بصورته الضعيفة وسوء تنظيمه، ولكنى أتمنى أن تنظم الجهة الرسمية مهرجانا ناجحا، ولو كنت فى صفوف المستمعين المصفقين، ما رأيك فى استبدال الموائد المستديرة بالمنصات والميكروفونات، ما رأيك فى الجلسات الودية حول محبة الشعر، بين الذين يكتبون قصائد مختلفة جمالية، شهاداتهم ستكون تعويضا عن الفقر النقدى الذى نعانى منه، نحتاج إلى ثقافة الحوار ولنبدأ بالحوار حول الشعر، الاختلاف فى الشعر مطلوب ووارد.
استمع لى الشاعر الكبير بمحبة لمحطتى مترو، وقبل أن ينزل قال لى، تعال بكرة المعرض ليا ندوة ونكمل ونشوف اقتراحاتك، قلت له عندى شغل بكرة، ممكن الجمعة، سلام.. سلام. ورأيت الشاعر الكبير يمضى عكس اتجاه المترو بشعره الفضى وملامحة المتمردة الشابة رغم بلوغه السبعين.
فى اليوم التالى، وفى ندوته التى لم أحضرها وجاءتنى متابعتها الصحفية للنشر فى اليوم السابع كان عم محمد يطلق نيران الحذف والإقصاء والتشويه وصولا إلى التكفير الجمالى: "قصيدة النثر نوع من البلطجة الأدبية، ونهب للقيمة بلا جهد ولا تعب، ونتاج العجزة الذين لا يقومون ببذل الجهد، فيقدمون نوعاً من تداعى الخواطر، ولا يهتمون بالبناء والخيال، ويملئون اللغة بالثرثرة" .
فكرت فى التفاوت الكبير بين كلام الشاعر الكبير على مدى يومين متتابعين، بين ترحيبه بمبدأ الحوار والالتقاء على أرضية الاختلاف وبين الإقصاء والنفى على طريق جماعات التطرف الدينى، لم أكن معنيا عندما قرأت كلام الشاعر عفيفى مطر بالدفاع عن قصيدة النثر، فهذا مضيعة للوقت والجهد، وإنما وقفت مشدوها من سطوة الدمار الذى تحدثه الأنظمة الشمولية فى النفس الإنسانية، بما فيها النفوس الكبيرة المبدعة المنوط بها تحريك الوعى وتقديم النقد لكل ما يهدد الحرية الإنسانية.
الأنظمة الشمولية تضع الفرد العادى كما تضع المثقف والمبدع فى قالب التطرف، بحيث لا يقبل إلا المتشابهين معه أو أبناء جماعته الدينية أو جماعته السياسية أو جماعته الثقافية الأدبية، ويتساوى التطرف الدينى مع التطرف السياسى الاجتماعى مع التطرف الثقافى الأدبى فى المنتج النهائى الذى يكون على صورة إنسان لا يقبل الاختلاف، يخشى الحوار، يلوذ بالمتشابهين من أبناء جماعته ويستعين بهم على قضاء مصالحه، وعلى تحقيق سلامه النفسى، وإذا اضطر للحوار يتعامل معه باعتباره هدنة أو تحركا تكتيكيا يعود بعده إلى خندقه.
أبناء الأنظمة الشمولية الذين استسلموا لآلتها الجهنمية فى التشويه، يخافون أن يضعوا قناعاتهم موضع الاختبار تحت أى ضوء جديد، يغلفونها بأكياس بلاستيكية ويحفظونها فى الغرف المظلمة بداخلهم، ولذلك تجد معاركهم ثابتة لا تتغير ومقولاتهم ثابتة لا تتغير، ولو بحثنا سنجدهم يرددون كلامهم نفسه منذ ثلاثين عاما ومنذ عشرين عاما كما يعيدونه الآن.
ما الذى يخشاه أبناء الشمولية، المضروبون بآلتها الجهنمية؟ يخشون أن تهتز قناعاتهم الراسخة، ويتحولون من الإيمان الجمالى الراسخ والمريح فى الوقت نفسه،إلى شك جمالى مقلق، يضعهم أمام تحديات جمالية جديدة لم يعودوا منشغلين بها، فى وقت استثمار الاسم الذى تحقق، ووقت حصاد "زرعة الشهرة" فى سنوات العمل والكدح.
ما يقلقنى فى توجهات أبناء الشمولية أنهم يغذون بمواقفهم المتطرفة، الرافد المتخلف فى الثقافة العربية التى باتت تحت سيطرة أموال النفط ودعايات الوهابية واستثمارات الأمراء الجدد، المتحالفة من طرف خفى مع انسحاب مراكز ثقافية كبرى مثل القاهرة ودمشق وبيروت وانهيار بغداد، لنصبح فى النهاية أمام ازدهار ثقافة الموت على حساب كل ما تعبر عنه الحياة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة