بالرغم من أنه كان يتعامل مع ما يمكن تسميته الصناعة الثقيلة للفكر، لكنه كان يفعل ذلك بإخلاص يحيل الأفكار والقضايا الصعبة إلى أفكار مفهومة وقريبة من الرجل العادى. أتحدث عن المفكر والكاتب الراحل محمد السيد سعيد الذى رحل عنا أمس، بعد صراع مع المرض اللعين، ويشيعه أصدقائه وزملاؤه وتلاميذه اليوم إلى مسقط رأسه فى بورسعيد.
من الصعب أن تجد إجماعاً أو ما يشبه الإجماع على شخص فى هذا الزمن، الذى يميزه الخلاف الواسع بقدر ما تجد إجماعاً على شخص محمد السيد سعيد، الذى يتفق خصومه مع أنصاره وأصدقائه على أنه مفكر نبيل لم يُر مرة يضرب من الخلف أو يستخدم عيوب خصمه الشخصية فى خلاف فكرى. ويمكن أن ترى ذلك فى أراء زملائه داخل مركز الأهرام للدراسات السياسية الذين اختلف مع أفكارهم السياسية والاقتصادية وقضايا شائكة مثل التطبيع، ومع ذلك فإن الخلاف لا يمنعهم من الاعتراف بنبله وعمق أفكاره وتفكيره التقدمى المستنير.
وهو نموذج للمفكر الليبرالى بالرغم من أنه لم يخف أبدا يساريته أو تصوراته عن العدالة الاجتماعية والاقتصادية. وكان ليبراليا بالمعنى الواسع للكلمة التى يساء فهمها والتعبير عنها كثيرا. هى مبدأ وليس أيديولوجيا. يعترف بالحرية للجميع ويسعى إليها ويدافع عن الحق فى التعبير والتفكير والتجربة والخطأ. ولهذا تبدو الخسارة شديدة من رحيل مفكر بحجم الدكتور محمد السيد سعيد الذى نجح لسنوات فى تبسيط الأفكار الصعبة وإعادة مناقشة وطرح المسلمات بتوجيه الأسئلة المهمة، وهى ميزة للمفكر الحقيقى والكاتب المخلص للفكرة وليس للأرباح. وهو هنا أيضا مفكر حقيقى يسعى للكشف والإنارة والمعرفة والتعبير عمن يصعب التعبير عنهم.
أسس المفكر الراحل تجربة جريدة "البديل" التى بالرغم من أنها تعثرت فقد بقيت أحد التجارب المهمة فى الصحافة المصرية واليسارية فى الوقت نفسه. وبالرغم من أن محمد السيد سعيد نشأ وتطور داخل مركز الأهرام للدراسات السياسية، ولم يخض تجربة الصحافة الاحترافية بشكل مستمر، فقد أخلص فى تأسيس البديل، وتعامل معها على أنها ابنة له يرعاها ويحرص على منحها كل وقته وجهده. وقد شهدت بنفسى كيف كان وهو فى عز مرضه وآلامه يذهب للعلاج ويعود ليعمل أكثر من اثنى عشر ساعة فى الصحيفة التى اعتبرها مشروعا مهما وقضية تستحق العناء. ولما تشكلت التجربة لم يتمسك بالمنصب أو يصر على امتلاك خيوط السلطة بل تركها لجيل شاب يثق به. فى وقت يصعب على كثيرين ترك مواقعهم.. وبالرغم من إغلاق البديل فى ظروف سيئة، فقد تركت بصمة كبرى، وفريقا صحفيا محترفا يجيد المهنة ويحترمها ويدافع عنها.
وأذكر مرات عديدة كانت مقالات وأعمدة الراحل تمثل نوعاً من الرياضة العقلية، حيث لا تكتفى بالقشرة وتنفذ للعمق من خلال أسئلة وأطروحات كاشفة، تنفذ إلى القلب وتعالج المنطق. وأذكر حلقات وتحليلات قدمها سواء فى الأهرام التى حلل فيها ارتباط الفقر بالجريمة، وأثبت عدم وجود رابط وأن جرائم الفساد والرشوة ونهب المال العام والبنوك يرتكبها أثرياء بما ينفى الربط بين الفقر والجريمة. كما أنه قدم فى البديل تحليلات مهمة لحركات الاحتجاج وشباب الفيس بوك والإنترنت، وحركة 6 أبريل وغيرها، لا تزال تمثل نوعاً من الفكر المنير والمستنير. كما أنه امتلك الشجاعة فى مواجهة المسئولين الكبار، وله قصة معروفة فى معرض الكتاب، عندما التقى الرئيس وتحدث أمامه بما يعتقد أنه يجب أن يذهب لصانع القرار، فأضاف لدور المثقف بعداً مهماً وعميقاً.
كل هذه الصفات التى يصعب أن تجتمع فى شخص واحد تجعل من المفكر الراحل الدكتور محمد السيد سعيد علامة فارقة ودرساً يبدو غائباً فى زمن تحمه الفوضى والعشوائية فى كثير من النقاط. لقد بدا وكأنه ابن موت كما يطلق الناس على الأبناء المميزين الذين يختطفهم الموت. لكن العزاء أن الراحل النبيل موجود ومتواصل بأفكاره وسلوكه ونبله وإخلاصه. رحم الله المفكر الراحل، وألهم ابنه وزوجته وأصدقاءه وزملاءه وتلاميذه الصبر والعرفان.