د. بليغ حمدى

شهوة التأويل

الأحد، 18 أكتوبر 2009 07:30 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أعجبتنى عبارة "هموم التخلف واحدة" التى قرأتها وأنا أطالع تقرير حالة حقوق الإنسان فى الوطن العربى، والذى تناول تدهور حقوق الإنسان العربى الأربعة بدءاً من حق الحياة، وحق التعبير، وحق الاعتقاد الدينى، وانتهاءً بحق تكوين الجمعيات. وسرعان ما ربط بين هذا التقرير وما يتضمنه من آراء لعل بعضها جادة ومحترمة، وبين حق أغفله التقرير نفسه، ألا وهو حق التأويل.

ولكنى أدركت أن التأويل فى حد ذاته لم يعد حقاً يطلبه الإنسان، بل أصبح فريضة يؤديها ليل نهار على كل ما يمارسه من سلوكيات وقيم وأفكار، هذا إن يفكر من الأساس، وقراءاته هذا إن كان يقرأ فى الأصل، وعلى ما يسمعه ويشاهده وأظن أنه لا يفعل ذلك أبداً، أقصد تأويل ما يسمعه. المهم أن التأويل بدلاً من أن يكون حقاً مكتسباً، صار شهوة موروثة بعلة وحجة أن صحة التأويل مرجعها الإجماع المطلق.

وعلماء الدين الأفاضل اتفقوا على ضرورة التأويل فى المواضع التى تثير الشبهات فقط، وهذا يجعل الناظر (أى الذى يرى الأشياء بنظرة ثاقبة وروية) لقضية التأويل ملتبساً بعض الشىء، فكيف يقضى رجال الدين بشىء ولم يتفقوا وتجتمع آراؤهم عليه اجتماعاً وإجماعاً مطلقاً .وهذا يذكرنى بما صنعه حجة الإسلام أبو حامد الغزالى فى كتابه "تهافت الفلاسفة" حينما كفر الفارابى وابن سينا لأنهما خرقا الإجماع فى التأويل، رغم كونهما من أهل الإجماع، أى أن رأى الغزالى فيهما لا يعتد به شرعاً، وهما (أى الفارابى وابن سينا) أكدا على توجه التربية إلى الاهتمام بالإنسان من جميع جوانبه، وأبعاده الروحية والعقلية والجسمية وغرس الفضائل والعادات السليمة.

إذن قضية التأويل لم تكن حديثة العهد بواقعنا العربى الراهن، بل هى ضاربة فى جذورنا الثقافية وكم من مفكر صارع وصرع من أجل إثبات هذا الحق للمواطن العربى قبل أن يصبح اليوم مشاعاً. وإذا راهنت نفسك بسؤال أحد الأفاضل الذين امتلكوا وحدهم حق التأويل عن شروط التأويل، وشروط القائم بالتأويل ستكسب رهانك لأنه سيسرد لك عبارات عامة عن القراءة والاطلاع والثقافة وامتلاك ناصية اللغة، ولو أن أحداً من هؤلاء بذل جهداً بسيطاً أقل مما يبذله فى إعداد ما يقوله إما للصحف أو للفضائيات الفراغية لما وصل بنا الحال وبشبابنا إلى حالة الفكاك المستديمة تلك التى نعانيها منذ أمد.

ولو أنه خرج قليلاً من عباءات الضيق والجمود الفكرى التى يعانى بعضهم منه وقرأ كتاباً مهماً للقاضى ابن رشد وهو "مناهج الأدلة فى عقائد الملة" لاستطاع أن يعبر بعقله أولاً ثم بعقول أبنائنا وشبابنا إلى المستقبل، وإلى خلق جيل أكثر تفكيراً ووعياً من سابقيه. فلقد حدد القاضى الفقيه ابن رشد شروطاً للقائم بالتأويل أبرزها أن يكون من العلماء أصحاب النظر البرهانى، أى الذى يبنى على مقدمات يقينية، وليست فقط أن تكون مشهورة بين الناس. وفرغ ابن رشد من حديثه إلى أن الشريعة الإسلامية تؤيد التأويل وتحث عليه، بحجة أن النظر فى الموجودات المصنوعة تدل على صانعها.

لقد مللت من التوجيه إلى ضرورة عدم الاقتصار على فكر معين للاستناد عليه عند التأويل، لاسيما وأن بعض أساطين الفضائيات لا محك لهم سوى الفكر والفقه الوهابى، أو الفكر والتفقه الشيعى الفريد، وهذا ليس اعتراضاً، حتى لا يفهم البعض كلامى هذا على أنه نوع من النقد والهجوم، بل إن حصر الرأى والتأويل على جهة محددة هو دعوة صريحة وخالصة لعدم إعمال العقل.

ولأن التأويل (وهو أمر جلل) أصبح يمثل شهوة لدى بعض العلماء الأجلاء الذين يطلون علينا عبر الفضائيات تراهم أكثر الناس استخداماً للفظة (كل) التى تفيد التعميم والإطلاق دون تخصيص، فيقولون: كل الناس تفعل كذا، وكل المصلين يفعلون كذا، وهكذا.

ثم إنك لتجد بعضهم وكأنه فى سباق محموم مع الآخر، فهو إما يناشدك بالدخول فى مناظرة ومقارعة علنية، أو يكتفى بأنه أكبر من الرد على مثل هذه التفاهات. وهم فى الحالتين وأقصد بعضهم لا الكل بمنأى عن الدعوة وعن اليقين وعن الحقيقة، وربما هم قريبون أيضاً من كل هذا، عملاً بقول الله تعالى "قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً" وكلمة (من) تفيد التبعيض والتخصيص والاستثناء لا التعميم والإطلاق والله أعلم.

ونرى من العلماء الأجلاء كالرازى والآمدى وابن الحاجب وأبى الحسين البصرى أنهم أكدوا على أن الأمة إذا اختلفت فى تأويل آية كانوا على قولين، وأجازوا لم بعدهم إحداث قول ثالث، هذا بخلاف ما إذا اتفقوا فى الأحكام على قولين فجوزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال فى تفسير القرآن والحديث، وهكذا كانت سماحتهم ووعيهم الديدنى بالتأويل وقبول الرأى الآخر ما لم يكن مخالفاً للشرع.

وخلاصة القول والرأى فى هذا أن التأويل والحمد لله لم يعد حقاً يطالب به بنو البشر على السواء، لأنه بالرغم من أنه أصبح مشاعاً، إلا أن فئة من العلماء أصحاب العقول الراجحة الجانحة اغتصبوا هذا الحق لهم وحدهم، وتركونا منفردين على حالات؛ إما نخاف على هيبتنا واحترامنا الثقافى والفكرى لأنفسنا فالتزمنا الصمت، وإما أننا أكبر من كل هذا الذى يقولونه ويبثونه بثاً فيصير هباءً منثوراً، أو نقبله كما تورد الإبل نحو الماء، فاللهم لا تجعلنا إبلاً تورد للماء طوعاً وقسراً وكراهية.

*دكتوراه الفلسفة فى التربية








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة