ينتاب الدكتور رشدى سعيد شعور دائم بالرغبة فى معرفة تأثير ما فعله وما كتبه على الأجيال الأخرى التى تابعت كتاباته وإسهاماته الكبيرة فى مجال الفكر والعلم معا، قال ذلك فى مذكراته الرائعة التى حملت عنوان: «رحلة عمر.. ثروات مصر بين عبدالناصر والسادات»، الصادرة عن دار الهلال منذ أكثر من عشر سنوات.
وأذكر فى حوار لى معه منذ سنوات فى منزله بضاحية المعادى، وبقدر انشغاله بأسئلتى حول مشروع توشكى الذى حذر منه، وما جاء فى كتابه الرائع «الحقيقة والوهم فى الواقع المصرى المعاصر»، كان يسألنى أكثر عما إذا كانت آراؤه وكتاباته تجد صدى لدى الأجيال التى لم تعاصره، أثناء اندماجه فى دولاب العمل الحكومى والسياسى، فهو كان رئيسا لمؤسسة «التعدين والمساحة الجيولوجية» منذ عام 1968، حتى تقدم باستقالته منها فى عام 1977، وكان نائبا فى البرلمان حتى عام 1976، وإليه يرجع الفضل فى نقل مؤسسة التعدين إلى مؤسسة عصرية، تستخدم البحث العلمى والطرق الحديثة فى الكشف عن ثروات مصر المعدنية، وكيفية استغلالها، وبقدر التطوير الهائل الذى أحدثه الدكتور رشدى لهذه المؤسسة، بقدر ما كشفت له عن خبرة عميقة للعوامل التى تؤدى إلى إشعال الفتنة الطائفية، وهو الخطر الذى يرى الدكتور رشدى أن خطره بدأ مع صعود التيار الدينى منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928.
وحين تقرأ مذكرات الدكتور رشدى سعيد، ربما تصل إلى نتيجة خطيرة فى قضية الطائفية، وهى أن الإنسان المصرى طائفى فى تكوينه أيا كانت ديانته، وحين ذكرت هذا الاستنتاج للدكتور رشدى فى مقابلة بالصدفة أثناء أحد معارض الفن التشكيلى، علق: «المشروع السياسى العام لنُظم الحكم التى مرت على مصر، هى المسئولة عن تأجيج هذا الخطر، وإذا كان هذا المشروع وطنيا جامعا ستجد المسيحى أو المسلم، يتكلم عن الوطن وليس الدين».
تعرف الأوساط العالمية الدكتور رشدى سعيد بوصفه واحدا من كبار علماء الجيولوجيا المرموقين، وإليه يرجع الفضل فى تبسيط هذا العلم، وربطه بالتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فى مصر، ويعد كتابه عن نهر النيل مرجعا رائدا فى هذا المجال، فالكتاب لا يعد وفقط تأريخا رائعا لحياة نهر، وإنما تنبيه إلى أن حضارة مصر التى تكونت بفضله، تفرض علينا ضرورات الحفاظ عليه، وأن عظمة مصر تتجلى حين يمتد بصر حكامها إلى حيث الأماكن التى تنبع منها، وتمر فيها مياهه، ومن هذه الخلفية يعلو صوت الدكتور رشدى سعيد محذرا ومنبها من التفريط فى أمن مصر الذى تعد مياه النيل صمامه الأول، ولم يكن تحذيره من مشروع توشكى إلا نموذجا تطبيقيا لذلك، وتجلت قيمة ما قاله حول توشكى، فى أنه جاء وسط أجواء رسمية ترفع المشروع إلى درجة المشروعات القومية التى لايجب انتقادها، لكنه لم يختر الصمت وحذر من إنفاقه العالى، وهو ماثبتت صحته فيما بعد، وأهم ما يميز الرجل فى طرحه أنه لم يذكر انتقاداته دون أن يطرح البديل فى كيفية تعمير الصحراء، وهى البدائل التى لو التفت إليها المعنيون لتغير الكثير فى مشاهد التنمية فى مصر، تغيرا يؤدى إلى إدماج كامل من الغالبية العظمى للشعب المصرى.
قادت الجيولوجيا الدكتور رشدى سعيد إلى خبرة عميقة فى معرفة مشاكل مصر، وأعظم ما فى هذا الرجل، أنه كان بوسعه أن يجلس فى صومعة العلم، متفرغا للبحث والتنقيب، ومنعزلا عما يموج به وطنه من تحولات عاصرها هو، بدءا من مرحلة ما قبل ثورة يوليو عام 1952، مرورا بعصر جمال عبدالناصر، ثم أنور السادات، وأخيرا المرحلة الحالية التى بدأت مع الرئيس مبارك عام 1981، لكن رشدى سعيد اختار أن يكون طرفا أصيلا فى كل هذه المراحل، ففى مطلع الأربعينيات من القرن الماضى، عمل لمدة عام ونصف فى شركة القصير للفوسفات، ويقول عنها: «تفتحت عيناى على مأساة الإنسان المصرى وغربته فى بلده، فقد كان عصب العمل بالشركة هو عمال التراحيل، الذين كانوا يساقون من بلادهم بالصعيد للعمل تحت السطح فى مناجم ذات أعماق سحيقة وظروف قاسية»، وفى مرحلة ثورة يوليو، توافق هو مع مشروعها السياسى ومع قائدها جمال عبدالناصر، فكان عمله رئيسا لمؤسسة التعدين، واختلف مع سياسات أنور السادات التى يحملها مسئولية كبيرة عن التدهور الذى نحن فيه، وقاده هذا الخلاف إلى أن يكون واحدا من الأسماء التى صدر قرار بالتحفظ عليها فى اعتقالات 5 سبتمبر عام 1981، لكنه كان فى الخارج ولم يعد إلا بعدها بسنوات، وفى أمريكا بقى الدكتور رشدى مهاجرا، لكنها الهجرة التى لا تشعر منها أبدا أنه بعيد عن بلده، ففى كل المعارك نجد قلمه وصوته، ويكفينا منه أنه قدم خلال هذه الفترة مؤلفه الرائع: «الحقيقة والوهم فى الواقع المصرى المعاصر»
واحد من كبار العلماء الوطنيين
رشدى سعيد.. العالم الذى ذاب عشقا فى حياة نهر النيل
الخميس، 22 أكتوبر 2009 01:57 م
رشدى سعيد