أقف كثيرا من باب التأمل والانحياز أمام المقالات الصحفية التى تدافع عن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فى وقت يفرض فيه الغيوم الكثير على دور الرجل وقيمته العظيمة فى تاريخ مصر المعاصر.
وحين أجد مقالا من هذا النوع لكاتب معروف عنه أنه لا يحب عبد الناصر، أو كاتب يقدر عبد الناصر لكنه ليس موصوما باتهام أنه من دراويشه، وهو الاتهام الاستباقى الذى يستخدمه البعض لنسف أى كلمة حق يمكن ذكرها حول قضية ما تتعلق بعبد الناصر، أقول حين أجد مقالا يأتى من التصنيفين السابقين، أتأكد أن التأثير فى الحالتين سيكون أعمق، وأتأكد أيضا كم كان الزعيم الراحل عظيما.
وفى الحالة الأولى، أى حالة من لا يحب عبد الناصر، أتذكر ما فعله الداعية الكبير فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى، فقبل رحيله فوجئ الرأى العام بالشعراوى يذهب إلى ضريح جمال عبد الناصر لقراءة الفاتحة والصلاة عليه، وقال الشيخ إن عبد الناصر جاءه فى المنام مرتديا ثوبا أبيض، فاستخلص الشعراوى من الرؤية أن ميزان حسنات الرجل أكثر من سيئاته.
كانت المفاجأة فيما فعله الشعراوى أنها جاءت بعد سنوات من هجوم الشيخ على الزعيم، وكان أقساها قوله إنه صلى ركعتين شكر على هزيمة 5 يونيه عام 1967، ورغم أن ما فعله الشعراوى قبل موته كان نوعا من الاعتذار على هجومه، إلا أن عشاق الهجوم على الزعيم الراحل، يستثمرون تأثير الشيخ فيستدعون حججه، ومنها قصة صلاته بعد نكسة يونيه، ويسقطون عن عمد قصة ذهابه إلى الضريح.
أما فى الحالة الثانية، وهى حالة رجل ليس موصوما بتهمة "درويش عبد الناصر"، فتتمثل فى مقال "جمال عبد الناصر" الذى كتبه الكاتب المرموق دكتور عمرو عبد السميع، الذى يعتبر نفسه من أبناء ثورة يوليو فى سياق مشروعها السياسى القائم على الاستقلال الوطنى، والعدالة الاجتماعية، لكن دون انخراط فى سلفية الدفاع عما فعلته الثورة على طول الخط، مما خلق التباسا لدى البعض بأنه من المعادين للثورة.
ومن هذه الخلفية تحديدا تأتى قيمة مقالة "جمال عبد الناصر" الذى نشرته الأهرام منذ أيام قليلة، ويفند فيه الكثير من السياسات التى خاضتها مصر فى الخمسينيات والستينيات، خاصة المتعلقة بالأمن القومى المصرى، ويستشهد بالكثير فى ذلك، مشيرا إلى أن التشويه والتزييف على كل المنجز الوطنى والعروبى عمد إلى ضرب كل المؤسسات والشخوص الذين قام عليهم نظام عبد الناصر، وصولا حتى إلى جهاز الأمن القومى، حيث اتخذ هذا التشويه واقعة محدودة تتعلق بالمرحوم المشير عبد الحكيم عامر، تم حساب الضالعين فيها وقتها متكأ لمحاولات إنكار الدور البطولى والوطنى الذى اضطلع به ذلك الجهاز لحماية البلد ونظامها..
يتعرض المقال إلى الوجود المصرى فى اليمن منذ بداية الستينيات إلى أواسطها، وأهم ما يذكره المقال، مطالبته بالتخلى عن اللهجة الاعتذارية عن هذا التواجد، مشيرا إلى أنها لهجة أجبر عليها خطابنا الإعلامى لسنوات بسبب أبواق إعلامية إقليمية ومحلية، ثم يفند المقال ما يستند عليه البعض فى الهجوم على دور مصر فى اليمن قائلا: "إن القوات المصرية لم تكن تلهو أو تلعب فى مدخل البحر الأحمر الجنوبى، وإنما كانت تحمى مصالح مصرية قبل أن تنتصر لشعب عربى شقيق"، وردا على مزاعم أن عبد الناصر أضاع الغطاء الذهبى لمصر فى استمالة القبائل اليمنية، قال د.عمرو: "إن كل مليم دفعته مصر للتخديم على تواجدها فى اليمن ونصرة شعبها فى مواجهة قوى التخلف، كان استثمارا عالى العائد للمصالح المصرية الوطنية".
ومن اليمن إلى دور عبد الناصر أفريقياً وعربياً، قال دكتور عمرو: "الدور المصرى هو ما كان عبد الناصر يفعله عربيا وأفريقياً لحماية محددات الأمن القومى فى البحر الأحمر وحوض النيل، وصرف فلوس لبناء أواصر علاقة، أو تشييد جسور تعاون هنا أوهناك ليس لإضاعة أموال البلد، أو بعثرتها فى الفضاء هباء منثورا، ولكنه انحياز لمصالح مصر وتكريس لها، وهو ما إذا انسحبت من مجال دعمه وصونه ستكون تركت مساحات من الخلاء السياسى تتقدم فيه إسرائيل أحيانا وبعض القوى الشرق أوسطية أحيانا أخرى".
ويضيف أن مساندة ثورة الجزائر كانت جزءا من صراع بلدنا مع الاستعمار الفرنسى فى المنطقة، وأن دعمنا لثورة الفاتح لم يكن عداء لملكية السنوسية بمقدار ما كان تأمينا لظهر مصر إزاء طعنات وطلعات الطيران المساند لإسرائيل من قاعدتى (هويلس) و(العضم) فوق الأرض الليبية..
وأن الدور المصرى مع السودان هو الذى مكن مصر من أن تنقل بعض كلياتها العسكرية ومنها الكلية الحربية العريقة زمن حرب الاستنزاف إلى أراضى السودان، حتى لا تكون هدفا لغارات العمق التى تواصلت قبل بناء حائط صد الصواريخ الشهير.
ذكر دكتور عمرو فى مقاله الكثير، وأورده فى سياق أن كل ما يمثله جمال عبد الناصر من منظومة قيم وأفكار ومبادئ تثبت الوقائع كل يوم أنها كانت الأكثر بلورة لمعنى الوطنية المصرية، والأكثر إقرارا لثوابت الأمن القومى، والأكثر انتصارا للانتماءات المصرية الصحيحة عربيا وأفريقيا، ويختتمه بالسلام على جمال عبد الناصر يوم ولد .. ويوم مات .. ويوم يبعث حيا.
ولأنى شديد الإعجاب بهذه المقالة أقول لكاتبها المرموق :"سلام عليك يا دكتور عمرو ألف مرة".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة