تمر السنة وتمر فى ذيلها أختها.. سنة وراء سنة ولا شىء يحدث سوى أعمار تزيد وملامح عجز تزحف للوجوه، وذكريات نعيش على حلوها ومرها، ولكن المشكلة أن السنة لا تمر إلا إذا سحبت من بيننا واحدا من هؤلاء الذين شاركونا الذكريات، وسنوات هذه الأيام أمراضها أكثر من الهم على القلب وتسحب من بيننا بالعشرات دون أن نقوى على أن نقول بم..
أنا عن نفسى وقفت عاجزا وهذه السنوات تسحب منى الكثيرين، مرة أبى الذى سحبته من بيننا بعدما تركته فريسة للسرطان، ومرة جدى حينما وقع فى فخ أمراض الكبد، فى هذه الأيام تمر ذكراهما، ومازال غيرهما يسقطون فرائس لأمراض لا تجد هذه الدولة التى يسيطر عليها معدومو الضمائر والمنافقون وقت فراغ لمحاربتها، بل ينشطون فى زيادة أنواعها ولهذا دائما حينما تسأل عن أخبار صديقك الذى شغلتك الدنيا عن مودته يقولون:ألم تعلم؟! لقد مات! وقبل أن تسأل إمتى وفين وحصل إزاى؟ تسرقك من نفسك برقيات التعازى الكلامية الطائرة.. البقية فى حياتك أو شد حيلك أو حسبما يتوفر لدى السادة المعزيين من كلمات.
أصبح الأمر مكررا.. تسمع خبر وفاة أحد أقاربك أو أصدقائك وكأن الموت يمشى فى الشوارع ليل نهار، وأصبح الأمر أكثر تكرارا وأنت تسمع أن فلانا لا يفارق سريره لأن المرض "الوحش"- يمكنك نطقها بفتح الواو أو كسرها- قد تمكن منه.
أتراجع كلما قررت زيارة أحدهم، فى العادة أنا لا أحب زيارة المرضى، ربما لأننى لا أتقبل نظرات الشفقة التى تنطلق من عيون ضيوفى حينما أكون مريضا، لكن للواجب أحكام وبدون اختيار أجد نفسى أمام سرير يحتوى على شبح كان منذ أسابيع إنسانا، رأيت ذلك أثناء زيارة صديق مريض بالسرطان، وقريب هجمت قوات فيروس "سى" على كبده ولم ترحم خلاياه المؤنث منها وما تم تذكيره، والضعيف منها وما تم تقويته بأدوية تنخرب البيوت لشرائها.
هذا ما رأيته..أشباح تحتضنها السرائر، أجساد خسرت نصف وزنها تتكوم بين ملاءة بيضاء بعدما كانت تهز أرض الشوارع وهى تقسم بأن ليس عليها قدها، ترى ولا تستطيع أن تبكى، فمن أقعدته هذه الأمراض يبكى حاله لحاله وليس فى حاجة للمزيد، فكن صبورا وافتح حنفية دموعك بعد أن تخرج من أمامه.
مشكلتى مع السرطان وفيروس "سى" ليست أبدا فى عمليات الاختطاف التى يقومان بها لأعز أصدقائى وأحبائى، ولا حتى مع تلك العملية قبل الأخيرة التى راح ضحيتها والدى، مشكلتى الحقيقية هى كسرة العين التى ألمحها فى عيون من أقعدهم السرطان أو أسكتهم فيروس "سى" عن الحركة، ذلك الانكسار الذى يشبه انكسار وذل الجندى الذى يموت على فراشه بينما المعركة دائرة بالخارج وهو مستسلم قليل الحيلة لا يملك سوى أن يتمسك بطرف ملاءة سريره ليمسح ما يفيض من دموعه، المشكلة ليست فى الموت ولكنها فى الطريقة، أن تتكوم على هذا السرير الناعم وتشعر بروحك تتسرب منك بشويش ووفود الناس تروح وتأتى ومعها مصمصة الشفاه المعتادة وكلمة يا حرام التى تقفز إلى قلبك مثل السكين، دون أن ترفع سيفك لتقاتل لأن عدوك انتشاره سريع وأنت دفعاتك ضعيفة، والإمدادات الخارجية لا تسمن ولا تغنى من جوع لأنهم لم يخترعوا الدواء بعد، فتجد نفسك مضطرا للموت كما لم تكن تحب، وترحل فى المشهد الذى تمنيت ألا ينزل معه تتر النهاية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة