أشلاء متناثرة.. دماء أبرياء متطايرة.. صراخ وعويل يكسوان المكان.. ذعر ورعب يسوقان العشرات للهروب من عربات الموت.. أطفال تستغيث.. أمهات يبحثن عن أبنائهن بين حطام القطارين.. شباب فى زهرة العمر يفقدون أطرافهم.. مسنون يرددون الشهادة قبل المنية بدقائق.. غيبوبة يغرق فيها العشرات بعد تعرضهم لارتجاج فى المخ.. رائحة الموت تخيم على الأجواء.. "ولاد بلد" تملأهم الشهامة يتسابقون من أجل إنقاذ من كتب لهم البقاء على قيد الحياة.. سيارات إسعاف تتوافد من أجل إنقاذ الجرحى..
تلك هى الأجواء المخيمة على مكان حادث القطارين عند قرية جرزا بمحافظة الجيزة، فقد كُتب لى أن أرى هذا الحادث أثناء عودتى لبلدتى ببنى سويف، وتوقفت سيارتنا لنشاهد هذه الأجواء الكئيبة.
وقد أثرت فى كلمات شاب كان غارقا فى دمائه بعد نجاته من الحادث، حيث انتابته حالة هستيرية وأخذ يردد: "لأمتى دمنا هيبقى رخيص على البلد دية لأمتى هيعملونا معاملة الكلاب، مش كفاية عذاب أبوية المطحون بالليل والنهار عشان يصرف على دراستى بالجامعة، حسبنا الله ونعم الوكيل فيهم"، وعندما حاولت أن أتكلم معه وأعرفه بهويتى الصحفية، ما كان منه إلا أن انفجر مرددا: "صحافة إيه، ما انتم قلتوا كتير بعد احتراق المئات فى قطار الصعيد، وطلع المسئولين بتصريحات وردية، وبالرغم من ده كل يوم والتانى بتزيد مآسى الشعب وعمالين نغرق فى دمنا، قولوا للكبار احنا زهقنا مش عارف هنلقيها من الفقر ولا الخوف ولا تسلط الكبار علينا".
بهذه الكلمات أنهى الشاب الناجى من الحادث كلامه معى وترك المكان رافضا أن تحمله سيارات الإسعاف لأقرب مستشفى، لكنه ترك لى كثيرا من علامات الاستفهام التى لا أجد لها حلاً ومنها:
إلى متى ستستمر مهزلة الاستخفاف بفقراء هذا الوطن؟ ألم يكفى حكومتنا الرشيدة أنها تفننت فى فرض كل ألوان الجباية تحت مسمى الضرائب؟ وكان من المنطقى أن يجد من يدفعون هذه الضرائب خدمات تخفف من أعبائهم التى تزداد يوما بعد يوم؟!
إلى متى سيكون دم المصريين رخيصا على حكومتنا؟ فهناك الآلاف الذين يلقون مصرعهم على الطرق المصرية، سواء البرية أو البحرية، فطريق الصعيد وحده يشهد مصرع أكثر من ثلاثة آلاف شخص سنويا.
بل إلى متى تدفن حكومتنا رأسها كالنعام فى الرمال تجاه ما بها من خلل فى أجهزتها التنفيذية؟ كلنا نعلم الوضع المهلهل الذى يسود أجهزة الدولة، فهل سمعنا عن نظام إدارى وتنفيذى فى العالم يغرق فى الفساد كما فى بلدنا؟ بل هل سمعنا عن حكومة مكونة من رجال أعمال يعيشون فى كوكب ثانى، ولا يشعرون بمدى ما يتعرض له المواطن المصرى من عذاب خلال حياته اليومية؟!
بل هل سمعنا عن حكومة مصممة على تكرار أخطائها؟ فبعد حريق قطار الصعيد انهال علينا سيل من الوعود التى أكدت أن مصر ستشهد نهضة فى قطاع النقل عامة والقطارات خاصة، لكن منذ هذه الكارثة وقد شهد هذا القطاع أكثر من 20 حادثة راح ضحيتها المئات من أبنائنا؟
قد يقول البعض إن الحكومة أحست بخطئها، وأكبر دليل على ذلك ما أقدم عليه وزير النقل من إعلان استقالته، وتأكيده لوسائل الإعلام أنه يشعر بالمسئولية تجاه الحادث.
وهنا أقول: لماذا لم يقدم وزيرنا الهمام على هذه الاستقالة فى نفس يوم الحادث إذا كان بالفعل يستشعر المسئولية؟ بل لماذا أعلن الوزير استقالته بعد جلسة البرلمان العاصفة، والتى عجز فيها الوزير عن الرد خاصة وأن الدكتور زكريا عزمى كان على رأس المنتقدين للإهمال الذى كان سببا رئيسيا فى وقوع الحادث.
لقد فهم الوزير الإشارة التى أرسلت له من خلال هذه الجلسة البرلمانية العاصفة، فأراد أن يكون بطلا على أشلاء شهداء قطار العياط، وحاول أن يجد لنفسه دورا يسلط عليه الإعلام أضواءه كأول وزير يستقيل ويقبل استقالته فى عهد حكومة الكوارث.
وإنى على يقين أن النظام المصرى يحاول امتصاص غضب المصريين، من خلال حزمة إجراءات وهمية ستنتهى بمجرد دخول حادثة قطار العياط "تخزينت" النسيان، والهدف تحسين وجه النظام، خاصة وأن الحادث تزامن مع مؤتمر الحزب الوطنى، واقتراب البلاد من انتخابات رئاسية وبرلمانية، فالفقراء لهم الله.. وللنظام حساب التاريخ.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة