«أيهما أحق أن يغتفر.. الظلم أم الكذب؟».
منذ أكثر من 25 عاما مضت، وأنا أحفظ هذا السؤال الصعب، بعد أن استمعت إليه لأول مرة من العظيم الفنان نور الشريف، أثناء تجسيده لدور إبراهيم عبدالله فى مسلسله الرائع «أديب» تأليف عميد الأدب العربى طه حسين.
جسد نور الشريف بعبقرية فنية معهودة، دور إبراهيم عبدالله الدميم شكلا، والعبقرى عقلا، والقلق نفسا، والذى سافر إلى باريس فى بعثة أزهرية للحصول على درجة الدكتوراة فى الأدب، واضطر أن يطلق زوجته حميدة ابنة قريته التى أحبته ورضيت به، بعد أن رفضته قريبته لدمامته، طلقها تلبية لشرط عدم زواجه حتى يسافر إلى باريس عاصمة الجن والملائكة.
تفوق إبراهيم فى باريس، لكن عقدة الضمير ظلت تطارده نحو حميدة التى طلقها من أجل البعثة، وظلت حياته وحتى مماته فى العاصمة الفرنسية محكومة بسؤال: «أيهما أحق أن يغتفر.. الظلم أم الكذب؟» يعنى ظلم حميدة، أم الكذب على البعثة بأنه لم يكن متزوجا، ورغم مرور نحو ربع قرن على المسلسل، أردد هذا السؤال فى السياق الدال عليه، كما أنه قفز إلى ذهنى أكثر، حين قرأت الاتهام السخيف للفنان الكبير بتورطه فى قضية شذوذ.
لا يحتاج نور الشريف إلى دفاع، ولا يحتاج إلى تحرير مذكرات لبراءته، ولا يحتاج إلى كتابة تدغدغ المشاعر حتى يتعاطف معه الجمهور الذى احترمه وأخلص له، فبادله الحب والاحترام، يحتاج نور الشريف إلى أن يعى جمهوره، بأن الافتراءات التى قيلت فى حقه لو وضعناها فى سياقها العام، سنتأكد أننا أمام انحطاط أخلاقى ومهنى لا مثيل له.
نور الشريف لم يكن يوما فنانا بالصدفة، ولم يخلد اسمه فى تاريخ الفن بالإلحاح والمطاردة، وإنما خلد اسمه بالاجتهاد والتوحد مع عمله وفنه، وسعى لأن يضع هذا الفن فى سياق وطنى جامع، يساهم فى مزيد من الاستنارة، ويؤسس للمواقف الجادة والمسؤولة للأجيال التى تبحث عن مثل عليا لها.
نور الشريف الذى توحد مع دور إبراهيم عبدالله فى مسلسل «أديب»، لدرجة أنه ظل يمشى لفترة بعد انتهاء المسلسل نفس مشية إبراهيم، يحق له الآن أن يستدعى السؤال: «أيهما أحق أن يغتفر.. الظلم أم الكذب؟»، يستدعيه لكى يختار من بين هذه الثنائية، الطريقة التى يتعامل بها مع الذين نسجوا قصة الشذوذ، بدلا من التوقف أمام فنه، وهمه العام، يحق له أن يرفض السؤال ولا يغفر تعرضه للظلم والكذب معا، فهما ثنائية شريرة تقود إلى الهلاك.
نور الشريف يبقى منه لجمهوره الذى أحبه أعماله الخالدة، وفى القلب منها «سواق الأتوبيس، وناجى العلى، والزمار، والبحث عن سيد مرزوق، وعمر بن عبدالعزيز، وهارون الرشيد، والرحايا»، وغيرها من عشرات الأعمال الفنية الخالدة، التى أسكنته فى قلوب محبيه، ومن هذه الأعمال يجب أن يكون التقييم له كفنان عظيم، استطاع بعبقريته الفنية أن يحفر فى قلوبنا اسمه وشكله وفنه.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة