فى بداية الستينيات، فى بدايات الصبا كانت أسرتنا تعيش فى شارع الرصافة بحى محرم بك فى مدينة الإسكندرية، التى كانت الفردوس الجميل لكل الجاليات من الجنسيات المختلفة من أرمن ويونانيين وإيطاليين، حيث كانت لهم مقاه وأندية اجتماعية وشوارع خاصة يعيشون فيها كما كانت لهم الكنائس والمعابد، وحتى المقابر الخاصة بهم، وكان ملجأ عجائز اليهود لا يبعد عن بيتنا بأكثر من مائة متر وهو شبيه بملجأ عجائز لليهود موجود فى شارع "بوالينو" قريبا من شارعنا وعن المعابد اليهودية فى الإسكندرية، فهناك معبد "منشا" الذى أسسه البارون يعقوب دى منشا بميدان المنشية، وكنت طالبا فى مدرسة الإسكندرية الثانوية التى كان مقرها فى قصر "منشا"، وما زلت أتذكر الرسوم التى كانت تزين سقف فصل ثانية عاشر الذى كنت تلميذا به وفى الشارع الذى يحمل اسم "منشا" ومعبد "الياهو حزان" بشارع "فاطمة اليوسف" بحى "سبورتنج"، ومعبد "جرين" الذى شيدته عائلة "جرين" بحى "محرم بك" وهو قريب جدا من بيت الممثل المعروف وحيد سيف ومنزل لاعب الكرة الشهير محمود بكر، ومعبد "يعقوب ساسون" بحى "جليم"، ومعبد "كاسترو" الذى أنشأه موسى كاسترو بحى "محرم بك"، ومعبد "نزاح إسرائيل الأشكينازى"، ومعبد "شعار تفيله" الذى أسسته عائلتا "انزاراوت" و"شاربيه" بحى "كامب شيزار".
أما الحى الذى أطلق عليه اسم "حارة اليهود"، فكان يبدأ من حى "الجمرك" ببحرى حتى حى "المنشية"، وهو حى كامل فيه شوارع وحارات وأزقة متداخلة ببعضها بعضا، وقد سكن "حارة اليهود" هذه المسيحيون والمسلمون واليهود بالطبع، حيث كانوا يشكلون الأغلبية فى الحى، وكانوا من الطبقة الدنيا من الجالية اليهودية وكانوا غالبا من اليهود المصريين المولد والجنسية، حيث حل فيها مجموعة من الصيادين اليهود الفقراء الذين رحلوا من رشيد وإدكو، إلى الإسكندرية لينضموا إلى بضع مئات من اليهود الذى ضاق بهم الحال فى مدينتى "رشيد" و"إدكو"، فجاءوا إلى الإسكندرية وأقاموا لأنفسهم خياماً فى حى "الأنفوشى" بمحاذاة الشاطئ وبشارع "الصيادين" بالقرب من "سوق السمك القديم"، ثم أصبحت هذه الخيام أكواخاً، تحولت بدورها إلى منازل، لتصبح "حى اليهود" بالإسكندرية، الذى يمتد من "حوش النجار" و"حوش الجعان" و"حوش الحنفى" إلى ميدان وشارع "فرنسا".
ومع مرور السنين اجتذبت الإسكندرية مزيداً من يهود القاهرة والدلتا، ومن المغرب والعراق وتركيا وأسبانيا، وقد أقام يهود الطبقة المتوسطة فى حى "محرم بك"، حيث شيد البارون "جاك دى منشا" أول مستشفى يهودى وهو المعروف الآن بـ"مستشفى الرمد"، إلى جانب العديد من المدارس والمعابد، بينما أقام أفراد الشريحة العليا الثرية من اليهود وسط المدينة بالقرب من شارع "النبى دانيال" الذى كان يبحث فيه "استيليو" الجارسون اليونانى عن قبر "الإسكندر الأكبر"، ثم توسعت أملاكهم فى منطقة "الرمل"، ويعيش كبير الطائفة اليهودية فى الإسكندرية حتى هذه اللحظة، وهو يبلغ من العمر ثلاثة وتسعين سنة وهو طبيب أسنان اسمه "ماكس سلامة" حيث تقوم على خدمته خادمة مسيحية من سيريلانكا، وإذا سمحت الظروف لمن يقابله فسوف يحكى له عن محلات اليهود "شيكوريل" و"هانو" و"داوود عدس"، وسوف يحكى عن كل أمور الطائفة ومعابد الطائفة فى الإسكندرية، وسوف يبدى امتعاضه وعدم إعجابه بالسيدة كارمن وينشتين رئيسة الطائفة اليهودية فى مصر التى خلقت الصراع داخل الطائفة بصراعها على الزعامة مع غريمتها ماريكا سموحة ليفى.
وفى الآونة الأخيرة وبعد معركة اليونسكو، اهتمت الصحف الأمريكية ذات التأثير الحقيقى فى الرأى العام الأمريكى والعالمى، بما نشرته باستفاضة وسائل الإعلام الإسرائيلية عن تقرير للباحث الإسرائيلى رونى كوهين، مشفوعا ببعض الصور المنشورة فى الصحافة المصرية التى يظهر فيها أحد المعابد اليهودية فى مصر وقد تحول إلى مقلب للزبالة، واتهم الباحث الإسرائيلى النظام المصرى بأنه "لا يلقى بالا للمعابد اليهودية فى مصر"، فانبرى الدكتور زاهى حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، وأعلن عن ترميم أحد أشهر المعابد اليهودية بالقاهرة، وهى المحاولة التى اعتبرها الكثيرون محاولة من وزير الثقافة فاروق حسنى لخطب ود اليهود فى إسرائيل ودعم ترشحه لمنصب مدير عام منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو"، لكن هذا لم يشفع لفاروق حسنى حيث وصفته الصحافة الإسرائيلية بصفات لا يمكن ذكرها هنا، كما جاءت فى صحيفة الوفد.
وقد أجرت صحيفة اليوم السابع فى عددها الأسبوعى بتاريخ 29 سبتمبر حوارا مع الأستاذ الدكتور يحيى الجمل تحدث فيه عن عمل فاروق حسنى مع أجهزة الأمن المصرية، وتجسسه على الطلبة المصريين فى باريس، حيث قال الدكتور يحيى الجمل فى حواره: "أولى بدايات حسنى مع اللواء أحمد كامل محافظ الإسكندرية ورئيس المخابرات فى أوائل السبعينيات من القرن الماضى، وتبنى حسنى وقتها وعينه فى قصر ثقافة الأنفوشى".
وربما تكون الذاكرة لم تسعف الدكتور "يحيى" وقد يكون فاروق حسنى على علاقة باللواء أحمد كامل قبل تعيينه محافظاً للإسكندرية، فقد تم تعيين فاروق حسنى فى قصر ثقافة "الأنفوشى" سنة 67، عندما كان محمد غنيم رئيس قصر ثقافة الحرية بالإسكندرية، وقد كان محافظ الإسكندرية فى عام 67 هو حمدى عاشور الذى هتفت مظاهرات طلبة جامعة الإسكندرية ضده بعد ذلك عام 68، وكان طلبة جامعة الإسكندرية المترددون على قصر ثقافة الأنفوشى وقصر ثقافة الحرية يتناقلون فيما بينهم الاتهامات عن العلاقات الوطيدة بين فاروق حسنى ومحمد غنيم بالعقيد، أو العميد لا أذكر رتبته، "س . ب" فى أمن الدولة بشارع "الفراعنة" بحى "وابور المياه" فى الإسكندرية، لكن ما أذكره جيدا أن فاروق حسنى ومحمد غنيم كانا يقومان بطرد بعض طلبة جامعة الإسكندرية الذين عرف عنهم اشتراكهم فى المظاهرات، حيث كانت لدى كل منهما كشوف بأسماء هؤلاء الطلبة تم توزيعها بمعرفتهما على موظفى قصرى الثقافة "الأنفوشى" و"الحرية"، وكان الاثنان يرددان دائما أن هذه تعليمات أمن الدولة، وبعد ذلك وفى عام 78 تحديدا تم تعيين فاروق حسنى نائبا لمدير أكاديمية الفنون المصرية ليضع قدمه على الدرجة الأولى فى السلم الذى أوصله إلى مقعد وزارة الثقافة ليستطيع بعلاقاته الشخصية مع بعض الكتاب والمثقفين "المعارضين" استردادهم لحظيرة النظام، فيقول عنه صلاح عيسى فى جريدة "الشرق الأوسط": "فى تقديرى إنه سيحفر اسمه لفترة طويلة جدا على الأداء الحكومى فى مجال الثقافة، وقبله كانت وزارة الثقافة هامشية، وهو جعلها من الوزارات المهمة. ومن إنجازاته المهمة، أنه أنهى القطيعة ما بين المؤسسات الثقافية الرسمية والمثقفين على أساس مواقفهم من نظام الحكم الحالى، منذ جاء فاروق حسنى للوزارة، وأنا أدافع عنه، وأنا أعتقد أنه وزير منجز، خاصة فى مجال الآثار، ورأيى فيه إيجابى"، ولهذا فإن فاروق حسنى سوف يبقى فى الوزارة إلى أن يقضى الله أمراً كان مفعولا ولا عزاء للثقافة المصرية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة