ينام المصريون ويستيقظون على أمل أن تسفر مباراة السبت القادم المرتقبة بين منتخبنا الوطنى وبين منتخب الجزائر عن نصر مبين لمنتخبنا يؤدى به إلى مونديال جنوب أفريقيا العام القادم.
الحق أن هؤلاء لا يتطلعون إلى نصر كروى كبير، ولا يداعب خيالاتهم لقاء كروى ساخن يفضى بهم إلى سهرة طويلة حتى الصباح فى الشوارع، يرقصون ويطربون منتشين بالنصر، هم بالطبع ينوون ذلك إذا انتصر المنتخب إن شاء الله، لكنهم فيما بينهم وبين أنفسهم يبحثون عن شىء ما تاه منهم، سقط سهواً فى الزحام.. يبحثون عن بهجة مشروعة تهزهم بعنف من الأعماق، هزتهم الأحزان.. يريدون استبدالها بنصر لا يعرف هزيمة، وتحقق لا يعقبه تنظير وتحليل، بساطة المصريين تنفر من كلام المثقفين فى الغرف المكيفة المغلقة، يريدون نصراً كبيراً واضحاً كالشمس فى كبد السماء، ليهللوا ويكبروا فى عين الإحباط والهزائم التى لحقت بالبسطاء منهم، بدءاً من رغيف العيش ووصولاً إلى المياه المخلوطة بالمجارى، مروراً بقطار العياط وغيره من القطارات!
بساطة آسرة سافرة، تأخذ المصرى أحياناً إلى فلسفة يمارسها دون أن يشعر بأنه فيلسوف، فلسفة البهجة التى وفرت للمصريين قدرة على ابتكار أحلى نكتة فى أحلك الظروف، وعلى الابتسام فى قلب المصائب، سمة تاريخية ملازمة للشخصية المصرية، كانت ولاتزال.. وفى بعض الأحيان تدفع هذه الفلسفة المصريين للبحث عن نصر، حتى ولو كان هذا النصر معقوداً بكرة قدم تتقاذفها أقدام لاعبى المنتخب على مستطيل أخضر!
إنه نصر ليس هيناً، وينطوى فى باطنه على درجة من درجات (القتال)، ودرجة أخطر من درجات التخطيط للمعركة، وهو فى باطنه أيضاً رهان على قدرة المصريين على تحقيق النصر فى حد ذاته، والحصول على لحظات من النشوة والبهجة النادرة، التى لم يتحصل عليها الناس من أهل مصر سوى فى انتصار الإسماعيلى على فريق (الإنجلبير) فى عام 1969، وبعد ذلك بواحد وعشرين عاماً حين تأهل المنتخب الوطنى للصعود لكأس العالم فى عام 1990، ثم العام الماضى حين أحرز المنتخب كأس الأمم الأفريقية.
إذن فهو نصر وجيه وقيم، لم يتكرر إلا نادراً فى تاريخ الرياضة المصرية، لذا فمن العجب أن يسخر بعضهم من تعلق الناس بأهداب هذا النصر، أو أن يسطحوا من الأمر برمته مستنكرين أهمية البهجة الحاسمة التى يلهث الناس للحصول عليها فى هذه الأيام..!
كرة القدم فى لقاء المنتخب بنظيره الجزائرى السبت القادم، ستكون تجسيداً لحلم بسيط وعظيم فى بساطته، وأجمل ما فيه أنه ملتقى لمن لا يلتقون على الإطلاق.
النخبة المثقفة تلتقى فيه مع البسطاء والأميين، كلاهما يريد النصر ويلتمس فلسفة البهجة المصرية، اليسار واليمين والوسط جميعهم يهتف للمنتخب ويدعو له لكى ينتصر، الكل فى حب مصر التى يحمل المنتخب اسمها سواء.. والكل فى حب الساحرة المستديرة سواء، الفرحة تعم الجميع إذا جاء النصر، لا يترفع أحد ولا يدعى ولا يتكبر ولا يقول إن الكرة مضادة للثقافة أو السياسة، لا أحد يمكنه التعالى على نصر مؤزر يحمل اسم مصر، ولو كان نصراً كروياً.
إنها أحلام البسطاء الذين يعبرون عن حبهم لهذا الوطن بتشجيع منتخبهم القومى، وبتقديم حلم انتصار هذا المنتخب حتى على أحلامهم الخاصة، الأعلام المصرية التى ترفرف فى المدرجات الكروية ليست سوى تعبير وطنى هادر وجبار لا يفهمه إلا المتشبع بفهم الروح المصرية، التى تجمع البساطة بالعمق فى فلسفة عجيبة التكوين، يسخر منها فقط المنفصلون عن الثقافة الشعبية للناس!
والنصر المرتقب السبت القادم والذى تنتظره العامة والخاصة وأرباب السياسة وأرباب البساطة _ من أغلبية الناس غير المسيسين _ هو نصر يضاف إلى انتصارات المصريين، لا يمكن أن ننظر إليه بوصفه انتصاراً من الدرجة الثانية، هو نصر كامل وإن كان فى مباراة لكرة القدم!
هذه أحلام الناس العاديين فى مصر اليوم، وما أخطر أحلام البسطاء.. فهى بسيطة مثلهم تماماً، ومن هنا تستمد قوتها، فهى واضحة محددة وممكنة التحقيق، لذا يصعب عليهم جداً أن يروها _ لا قدر الله _ تتحطم!
لنحترم هذا الحلم الذى يبحث عن نسمة هواء عليلة وميسورة فى مناخ يتنافس فيه المتنافسون لإحباط الناس و(سد نفسهم) عن الحياة ذاتها، وتصويرها لهم وكأنها صوبة معتمة لا خير فيها ولا أمل، وما أكثر هؤلاء المحبطين على الساحة من كل المشارب، والمصريون يتحملون ذلك صابرين، ألا يحق لهم - بعد ذلك – أن يلتمسوا بهجة تأتيهم كجملة اعتراضية تأخذهم بعيداً عن الإحباطات والمحبطين وناشرى الظلام؟!
حلم النصر فى لقاء السبت اختمر فى خيال البسطاء والنخبة على السواء، ويبقى على كاهل جنود المنتخب الذين سيقاتلون فى معركة السبت أن يعوا تلك المسئولية المخيفة الملقاة على عواتقهم والمعقودة على أقدامهم الماهرة، المسئولية كبيرة.. أنا شخصياً أشفق عليهم إشفاقاً كبيراً، فبين المسئولية والشعور بها وبين الخوف إلى حد الاهتزاز شعرة رفيعة ويل لمن يقطعها، وعلى من يتحمل أحلام البسطاء والعاديين من الناس أن يعى خطورة تكسير هذه الأحلام البسيطة.. العظيمة!
ليكن النصر لمنتخبنا فى معركة السبت المنتظرة، قلوبنا معهم تدعو لهم، وتدعو لكل المصريين أن يبتهجوا.. يبتهجون بلا حدود ولا قيود، بهجة تهزهم من الأعماق وتختطفهم بعيداً عن الإحباط!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة