د. بليغ حمدى

هولوكوست أم درمان

السبت، 21 نوفمبر 2009 07:01 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لن أتحدث عن مباراة كرة القدم الدموية بين مصر والجزائر الأخيرة، ولن أتطرق إلى أحداث ما بعد المباراة، بل ولن أشير إلى أية صلة بالرياضة فى هذا المقال. والأهم أننى لا ولن أعرض تفاصيل الضرب الذى لقيه المصريون بالسودان قبل وأثناء وبعد المباراة، لكننى سأتناول فى عرض بسيط الإجابة عن سؤال لماذا ضربنا؟

فجميع البرامج الفضائية التى ملأت حياتنا بدلاً من الكتب، وكافة الصحف القومية والمعارضة والمستقلة الحرة الشريفة لا حديث لها هذه الأيام سوى كيف فعل الجمهور الجزائرى أو بمعنى أدق بعض المرتزقة الجزائريين مع المصريين من ضرب وسباب، واستهزاء بالهوية المصرية، وازدراء العنصر المصرى العربى اللسان قبل المكان والمكانة، ومن بصق وهتاف وأسلحة مادية ومعنوية.

ثم كيف لهؤلاء البربر أن يقدموا على مثل هذه التصرفات الصبيانية ضد أعظم وأعلى وأرفع وأرقى شعب وأمة على وجه البسيطة، لكن كان علينا أو بالأحرى أن تستعين هذه البرامج والصحف والمجلات بخبراء فى طبيعة الشعب المصرى وسيكولوجيته حتى يبينوا للرائى والناظر والسامع أن هذا الشعب مؤهل تماماً لما حدث له بالسودان مؤخراً.

فالشعب المصرى يتصف بطول تاريخه الضارب فى القدم بالميل الفطرى العاطفى نحو الحزن، وتلك العاطفة عميقة لديه من الفرح، فهو شعب يتوقع أحداث الحزن والخوف بصورة دائمة ليس فقط فى نتائج مباريات الكرة وحدها، بل فى شتى مناسبات حياته، حتى أنك تجد الواحد من أبناء هذا الشعب إذا أكثر من الضحك والبهجة والسعادة يقول لنفسه اللهم اجعله خيرا، وكأنه ينتظر فجيعة أو كارثة محققة.
ناهيك عن شعوره المستدام بالانكسار والظلم الذى وقع أو سيقع عليه، لاسيما بعد حرب أكتوبر المجيدة بانتصاراتها وشموخها ورجالاتها البواسل. وهذا الشعور الدائم بالظلم يولد لديه مشاعر الإحباط والكآبة وربما الدونية.

وأنا مع كافة قطاعات الشعب المصرى العظيم فى إحساسه بالإهانة والضيق والكراهية لما جرى لجماهيرنا التى ذهبت لمشاهدة مباراة فى كرة القدم، بل ولن أخفى أننى بكيت بحرقة شديدة مرتين ؛ الأولى بعد انطلاق صفارة الحكم لتعلن نهاية المباراة، والثانية حينما رأيت الخوف متجسداً فى وجوه المصريين العائدين من محرقة السودان، ولكن هذا لا يجعلنى أبداً أغضب وغضبى ينسينى أن من سمات هذه الأمة النرجسية.
وهذه السمة، كما أشار إليها الباحث المصرى سعد الزلط تعطى انطباعاً بأن مصر محور العالم كله، وأن المصريين هم الأذكى والأقوى والأكثر حكمة وبراعة ، وهكذا نرى أنفسنا متضخمين فى الذات، وتضخم الذات هذا مرض لعين أقوى وأشرس من الإيدز والسرطان وأنفلونزا الخنازير، لأن هذا التضخم يجعل صاحبه بعيداً عن الواقع، وهو أمر يجعلنا مضطرين أن نصبح بعيدين عن رؤية أخطائنا ومواطن ضعفنا وقصورنا، وغير قادرين على التعلم من الخبرات السابقة.

فكل الذين ظهروا وتحدثوا فى البرامج الفضائية أكدوا بعض الحقائق التاريخية الرياضية بين مصر والجزائر، ولكن سمة النرجسية المتضخمة لدينا جعلتنا نقف عند حدود مباراة فى كرة القدم ولم نتخطاها، وإنى لأتعجب من هذا الكم الغارق فى السخط والكراهية لما حدث لنا فى السودان، وتناسوا فجأة أن النيل الذى يتمايل فى هدوء بأرض مصر قد أكسب أبناء هذا الشعب الطبيعة السمحة التى تتنازل بعض الشىء عن حقوقها ومكانها ومكانتها لدى الآخرين.

وكان يجب على هؤلاء الذين امتدت أياديهم إلى الأقلام، وحناجرهم نحو الميكروفونات أن يبرروا حالات الكسل والتواكل واللامبالاة والسلبية والتسليم للأمر الواقع حيال ما يحدث داخل مصر من قرارات وزارية، أو غرق أبنائنا بعرض البحر فراً من ضيق المعيشة بوطنهم، أو حرقهم داخل القطارات، أو الذين راحوا ضحية أكياس الدم الفاسدة.

ويا ليت ابن خلدون كذب حينما ذكر فى مقدمته عن العرب والبربر عندما وصف أهل مصر قائلاً "إن أهل مصر يميلون إلى الفرح والمرح والخفة والغفلة عن العواقب"، ومن أبرز ما قرأته مؤخراً من دراسات أكاديمية تتعلق بطبيعة الشعب المصرى أنه شعب لا يثور ولا يتحرك إلا حين تجرح كرامته الوطنية بشكل مهين.

ولكن ما الذى جعلنا نهان من شعب أطلق عليه السابقون لفظ البربر؟ فهل سمعتم عن رجل صالح طاعن فى السن، حكيم بالحياة والتاريخ، يحمل بعقله حكمة ومعرفة الزمان السحيق، وبقلبه عطفاً وحناناً لجيرانه وأبنائه، ويتسم بالطيبة والسماحة، ومع ذلك يضربه ابنه، وتسبه زوجته، وتكيل له ابنته النقائص؟ بالطبع لا. وهكذا نظرنا إلى مصر فى صورة هذا الرجل الحكيم، وظللنا سنوات نضخم فى ذاتنا دون النظر إلى واقعنا المحيط وما يحمله من نفوس مريضة، من يتربص بنا، ومن ينتظر الفرصة سانحة ليجهز علينا.

بالأمس، اتهمنا إسرائيل المتربصة أنها وراء سقوط وهزيمة الوزير فاروق حسنى فى انتخابات اليونسكو، ودورها فى سرطنة الخبز، واليوم أصبحنا فى حالة استنفار ومرابطة بالجزائريين فى كل مكان، ودائماً وأبداً نحن فى حالة احتقان طائفى داخلى، فما الذى أدى بنا إلى كل هذا؟
لاحظ معى عدد الأعلام التى نكست من فوق أسطح المنازل والمحلات والأرصفة بعد هزيمتنا من الجزائر، ولاحظ غياب الأغنيات الوطنية الحماسية التى حفظها ابنى وهو دون الثامنة من كثرة إذاعتها، فبدلاً من أن نعلن حربا لا أظنها رابحة ضد من يعوى، علينا أن نراجع قيم الوطنية التى أصبحت لدينا مثل كسوف الشمس، أو كتعامد الشمس على وجه رمسيس الثانى أو الثالث أو الرابع، آن الأوان أن ندعم فى نفوس أبنائنا وهم تلاميذ، وعمال وموظفين الإرادة الوطنية فعلاً وقولاً وسلوكاً، وأن يعتادوا أن يكونوا مواطنين لا رعايا.
• دكتوراه الفلسفة فى التربية








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة