حامد سيد محمود، شاب فى الثامنة عشرة من عمره، ابن لأب مكافح، بدأ مثلما يقولون "من الصفر" ولما يسر الله عليه لم يتنكر لبداياته ولم يتعال على أهله، ظل بينهم أخا كريما وسندا وعونا، حامد الذى يساعد أباه فى عمله، يعرف الأصول جيدا، سيارته اليابانية الحديثة تحت أمر أهل الشارع، بها ينقل المرضى، ويؤدى واجب "الدفنة والجنازة" وفى المساء، مثله مثل معظم الشباب "يتسرمح حبتين" ويقول "ساعة لربك وساعه لقلبك".
حامد كان يحلم بوصول مصر لكأس العالم، فحجز مقعده باستاد القاهرة، وسهر طوال ليله 14 نوفمبر، ليكسى سيارته بالأبيض، والأحمر، والأسود، غير عابئ بالخسائر المادية التى سيتكبدها، جراء "بهدلته لسيارته، وبعد أن فرغ من دهانها مضى مزهوا ليلصق النسر على "كبوت السيارة" فبدا النسر متربعا شامخا.
لم ينم حامد ليلة الانتصار فى الرابع عشر من نوفمبر، لكنه سرعان ما فطن إلى أن المعركة لم تنته، ففى الصباح، ذهب إلى الجوازات ليستخرج جواز سفر ليتمكن من الذهاب إلى السودان، داعبته وقلت له: روح السودان وسلملى على سعدان، فقال ضاحكا: من عنيا يا عم وائل، هسلملك عليه وعلى اللى خلفوه.
فى ليلة الثامن عشر من نوفمبر قابلت حامد فى المساء، وهو الذى يعينينى على "ركن" سيارتى الجديدة التى أهلكتها من فرط "الغشم فى السواقة" قلت له: اتأخرت عليا يا حامد فركنتها لوحدى، وتوقعت أن يبادلنى الحديث عن فنون القيادة التى يتقنها، لكنه كان صامتا، فقلت له: مالك، فرد: ولاد الـ... مش هيخلونى أسافر، والجامعة ممضتليش الورق بتاع الجواز، مينفعش أروح أسوان وأهرب من هناك، مينفعش تعملى أى حاجة يا عم وائل عشان أسافر مينفعش تكلملى حد يسفرنى من بتوع الحزب الوطنى" كان حامد يحدثنى وهو يبحث فى السيارة عن الأوراق ليعطيها لى، وعلى ملامحه نظرات حزن بالغة، بينما كنت أدارى صمتى ببسمة رضا استخلصتها من حماس حامد وحبه لبلده، واستعداده لأن يرتكب جريمة الهروب بلا جواز سفر فداء لها، ولم أرد أن أقول له أن ابن حتتك لا يقدر أن يفعل لك شيئا لأن ليس لديه أصحاب ولا معارف فى الحزب الحاكم، وطمأنته بقولى إن السودان كلها ستشجع مصر وأننا سنعود فائزين وأن هناك العديد من المشجعين وصلوا إلى السودان وأن الاستاد سيمتلئ على آخره بالمصريين والسودانيين المحبين لمصر، وفى نهاية الحديث قلت له: معلش أبقى روح المطار لما اللعيبة يرجعوا بعد ما نغلب الجزائر.. إن شاء الله.
لم يشأ الله أن نفوز، لكن الجميع كان راضيا بما تحقق، وقلنا: وإيه يعنى حاولنا وفشلنا.. رفرفت الأعلام وعلت أصوات السيارات، ونزل الشباب للشوارع "ولا كأن حاجة حصلت" وكان أجمل ما فى الأمر أننا استعدنا قيمة العلم، واستعاد شباب فى عمر "حامد" إحساسهم بوطنهم، وأبدوا استعدادا حقيقيا لفدائه والتضحية بمستقبلهم من أجله.
كنت قبل بداية المباراة أعرف أن الانتصار سيجد له ألف أب، وأن الحزب الوطنى استعد ليتوج نفسه أبا وحيدا له، ونما إلى علمى أن أحمد عز أمين تنظيم الحزب كان يرتب موكبا يضم لاعبى المنتخب بالإضافة إلى نجل الرئيس ليحتفلوا بالانتصار على غرار احتفال الأهلى ببرونزية كأس العالم للأندية، لكن أتت الرياح بما لا تشتهى الحزب، الذى سعى لتكون "الصورة حلوة" فاصطحب معه الإعلاميين والفنانين، وترك جمهور الدرجة الثالثة الذى ينتحر فى المدرجات لتحفيز اللاعبين وتشجيعهم، جمهور الدرجة التالتة "مثل حامد وأصدقائه" تقبل نتيجة المباراة حزينا راضيا، إلا أن هذا الرضا تحول إلا "غمة" حينما توالت الأنباء عن اعتداءات الجزائريين على المصريين فى السودان، سهر حامد وأصدقاؤه على ناصية الشارع لا يعرفون ماذا يفعلون، يقتلهم الغيظ من أفعال الجزائريين الهمج، وتستفزهم خسة أفعالهم ووضاعة أسلوبهم فى التعامل مع من كانوا يعدونهم أشقاء، قال الشباب: لو كانوا قالوننا إنها معركة كنا سففناهم التراب، والله لو شفنا أى جزائرى لنولع فيه.
أهينت مصر، والأسباب كثيرة، أهمها مساهمة قوى الاستبداد بمصر والجزائر فى تأجيج الصراع، واستغلال كل دولة هذا الحدث الرياضى المنتظر لأهداف سياسية رخيصة، لكن القضية الآن ليست فى الأسباب، بل فى الإهانة التى لحقت بمصر وكيفية محوها والرد عليها، والمسألة ليست كما يلخصها أصحاب المصالح باستخفاف ونذالة بقولهم "إنها مباراة كرة قدم تافهة" لكن المسألة هى كرامة هذه الدولة التى أهينت وشعر أبناؤها بالهوان جراء أفعال حفنة من الأنذال الأخساء، لم يكن أحد يعلم أن المباراة ستنقلب إلى بلطجة، ولا أن الشعبين اللذين كانا شقيقين سينقلبان إلى عدويين لدودين، ولم يكن أحد يتوقع أن دولة بوتفليقة ستعلن الحرب على مصر وترسل جيشها ومخابراتها وحثالتها لتحتل السودان وتطارد المصريين، وأثبتت الجزائر بهذه الأفعال المنحطة أنها الأقوى من بين الأنظمة المستبدة فى المتاجرة بأحلام الشعوب، كما أثبتت أن خيال الحزب الوطنى قاصر على ملاحقة محترفى الشعب والجريمة، ولو كان الحزب الوطنى يعرف أن الصراع صراع بلطجة لأرسل كتائب مكافحة المظاهرات والمعارضين لتقف أمام هؤلاء البرابرة الأجلاف، لكنه لم يكن يتوقع أن تسير الأمور هكذا، وغاية ما كان يتخيله أن المباراة ستصبح فرصة سعيدة للـ"غلوشة" على ترشيح البرادعى للرئاسة.
لن تمر إهانة مصر مرور الكرام، ومن يعرف هذا الشعب يدرك جيدا أنه لا يسامح من يسىء إليه طالما ثبت لديه أن هذه الإهانة متعمدة ومقصودة، وهذا الشعب أيضا يدرك أن هناك العديد من التجار محترفى "تمييع" المواقف وتسييسها، وثبت لديه أنهم لا يتكلمون بلسانه، وإنما يتكلمون بلسان مصالحهم وأربابهم، لذلك لا يعيرهم اهتماما ولا يلقى لهم بالا.
لا، لم يكن يوما عاديا لنقول غدا يوم آخر، ولم تكن مباراة كرة قدم لنقول "خيرها فى غيرها" كان اليوم أسود، ولم تكن المباراة إلا أداة لكشف الكره والحقد الدفين، ولا عزاء للحزب الوطنى الذى أرادها احتفالا فكانت وبالا، ولا عزاء للمثقفين المسيسين الذين احترفوا المداهنة، فنبرات الاعتراض على البربر تتصاعد على أيدى المثقفين المستقلين، والأمل كله فى جيل "حامد" الذى يحمل فى قلبه حب مصر ويتنظر فرصة للرد على كل المسيئين إليها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة