كان هناك قلبان يخفقان فى صدرى وأنا أشاهد مباراة مصر والجزائر الأخيرة. القلب الأول تمنى بالطبع فوز مصر وإدخال الفرحة على قلوب الملايين، والقلب الآخر كان يخشى على مصر من تلك الفرحة الموسمية التى تسكِن آلام الشعب لفترة قصيرة ولكنها لا تداوى أمراضه الحقيقية. كنت أخاف من نصر يسرقه الحزب الحاكم ويصنع به مجدا جديدا زائفا. ومع صافرة النهاية فى أم درمان وجدتنى أقول لنفسى: لعل هزيمة منتخب مصر تعيد الشعب مرة أخرى لقضاياه الحقيقية. فقد أنستنا نشوة النصر فى مباراة القاهرة قضية مستقبل مصر السياسى ولم ينتبه أحد أن هذا النصر كان أحد أحجار مشروع التوريث. ولم ينتبه أحد أن بعض الأحزاب المعارضة استغلت انشغال الناس بأحلام المونديال وأعلنت رفضها لتدعيم ترشيح محمد البرادعى لانتخابات الرئاسة القادمة رغم إدراك الجميع أنه الوحيد القادر على التصدى لمخططات التوريث.
منذ سنوات والحزب الوطنى يحاول إقناعنا أنه صاحب مسيرة الإنجازات السياسية وصانع أمجادنا الكروية، وأحزاب المعارضة (خاصة المخضرمة منها) توهمنا أن الحزب الحاكم وحده هو المسؤول الأول والأخير عن حالة العقم السياسى التى تعيشها مصر. قالت إن سياسة الحزب الواحد وتعسف السلطة هما السبب وراء عدم خروج كوادر قادرة على العمل السياسى من بين صفوف المعارضة. قد يكون كلام المعارضة صحيحا بعض الشئ، فالحزب الحاكم لم يخلق بالفعل المناخ المناسب للعمل السياسى الديمقراطى واستثمر سنوات حكمه لتقوية نفوذه وقصقصة ريش معارضيه. ولكن يبدو أن المعارضة أيضا (باستثناء البعض طبعا) قد أصيبت بنفس العدوى وقررت تقويض فرص كل من سواها حتى ولو كان أكثر كفاءة واستحقاقا. فلم يكد يُطرح اسم محمد البرادعى كمرشح قادم للرئاسة حتى أعلنت بعض الأحزاب الجالسة على دكة احتياطى الحكم منذ الأزل عن رفضها لمؤازرته بحجة أن كوادرها أولى منه بالمساندة.
مازال منطق العصبية القبَلية والولاء يسيطر على فكرنا السياسى أكثر من منطق المصلحة العامة. فبدلا من أن يقرأ التائهون فى سراديب المعارضة اللحظة التاريخية ويستغلوا الفرصة السانحة لتوحيد صفوفهم من أجل التغيير، نجدهم يدخلون فى جحورهم كالعادة وينخرطون فى مبارزات جانبية، ويجاذفون بذلك بمستقبل مصر فقط لأن البرادعى لا ينتمى لهم. نعم قد لا يكون للبرادعى تاريخا فى العمل السياسى داخل مصر، وقد لا يكون له شرف دخول السجون والمعتقلات كمعارض سياسى، وقد لا نستطيع أن نطلق عليه اسم "مناضل" أو "مجاهد". ولكن هل هذا هو كل ما نريده ممن سيدير دفة السياسة فى مصر؟ ألا يكفى أن يكون الرجل صاحب رؤية وصاحب مشروع وأنه قادر على القيادة ومواجهة التحديات الدولية؟ ألا يكفى أنه ليس فقط مدركا لحجم المشكلات التى تؤرق مصر مثل الفقر والجهل والمرض، بل لديه الخبرة الدولية التى تساعده على مواجهتها؟ ألا تكفى مصداقيته وقوة إرادته وإيمانه بالديمقراطية؟
بل إنى أرى أن بُعد البرادعى عن المناخ السياسى المصرى فى السنوات الأخيرة يُحسب له لا عليه، لأن الرؤية عن بُعد قد تكون أكثر دقة ووضوحا، فالمسافر الجالس بداخل الطائرة لا يشعر بسرعة أو بطأ الطائرة مثل من يراقبها من الخارج، وحسن شحاتة قادر على تقدير ما يحدث داخل الملعب أكثر من محمد أبوتريكة. ولنبقى داخل الاستعارات المجازية لكرة القدم: أليس للاعب المحترف دائما الاسبقية فى تشكيل المنتخب الوطنى؟ وعلى عكس البرادعى فإنى أرى أن أحزاب المعارضة (إلا من رحم ربى) هى التى عزلت نفسها عن الشعب وصارت سياستها دفاعية وردفعلية، وصارت تشابه الحزب الحاكم فى انشغالها بذاتها و بُعدها عن نبض الشارع. والعزلة دائما تؤدى للنرجسية والوسواس القهرى، كما تؤدى لما يشبه زواج المحارم، الذى لا ينتج عنه سوى اطفال مشوهون أو عاجزون.
هل يستطيع أحد أن ينكر أن مجرد طرح اسم البرادعى كأحد بدائل السلطة قد حرك المياه الراكدة فى مستنقعات السياسة المصرية؟ أخيرا بدا فى الأفق خيار آخر غير ما حاول الجميع أيهامنا به من أن البديل الوحيد للتوريث هو حكم الإخوان. وحتى ولو فُرِض أن البرادعى غير قادر على قيادة مصر على المدى البعيد (وهو مالا يستطيع أحد اثباته أو نفيه فى الوقت الحالى)، فإنه وبلا شك قادر وبجدارة على احداث تغيير مبدأى فى فهمنا للسلطة وتناولها. أراه قادرا على كسر حالة الجمود واللامبالاة التى أصابت الشعب والأحزاب معا. يكفى قدرته على بث الأمل فى نفوس من يتوقون إلى التغيير فى مصر وهم كثُرُ.
فلماذا تخاف المعارضة من البرادعى؟ هل يخافون أن يقفز على عرش مصر ولا يتركه؟ أم يخافون أن يتصدى لسياستهم التى لا تقل تخبطا عن سياسة الحزب الحاكم؟ هل يخافونه لأنه ليس من ذلك النوع الذى سيقوم بعمل تربيطات معهم ويترك لهم الحبل على الغارب؟ أم يخافون أن يُظهرهم على حقيقتهم ويبين للشعب أن عدم التغيير لم يكن فقط جناية الحزب الوطنى؟ أم أن المعارضة أيضا صارت من المستفيدين من حالة "محلك سر" و"اللى نبات فيه نصبح فيه"؟
صحيح أن رجلا واحدا لا يكفى لإحداث التغيير المرجو، ولكن اللامبالاة والتكتيكات الرخيصة هى ايضا أسوأ شئ لمواجهة حالتنا هذه. وسوف يحاسب التاريخ من يقاومون رياح التغيير أو من يقدّمون مصلحتهم على مصلحة البلد. ولو تمكنت الأحزاب المعارضة من إقصاء البرادعى و تفويت هذه الفرصة، فستكون بذلك أعطت إشارة خضراء لمشروع التوريث، وعندها لن ينسى لها الشعب ذلك وسيلقى بها فى غياهب النسيان.
وهنا أوجه الكلمة الأخيرة للمثقفين والأدباء والفنانين: انسحابكم من العمل السياسى يجعل أنصاف المثقفين يحتكرون السياسة، وعزوفكم عن التعليق على ما يحدث يقوى شوكة بلطجية السياسة ومتطرفيها. صرنا كثيرا خلف مقولات مثل "نهاية السرديات والقضايا العظمى"، ولكننا أغفلنا أنها جاءت من أوروبا حيث شبع الناس من الديمقراطية وصار الأدب يدور حول ذات الكاتب ولا يتعرض لقضايا مجتمعه بشكل مباشر. أما قضايانا فمازالت كبيرة ولا تحتمل هذا القدر من الترفيه واللامبالاة. ومهمة المثقف فى نظرى ليست فقط الرفض والعويل على الأوضاع المتدنية بل أيضا التشبث ببصيص الأمل وتدعيم من يستحق التدعيم. ليس عيبا أبدا أن يقول الثقف "نعم".
كنت أراقب المباراة وأنا أتساءل: أيهما أفضل لمصر، فوز يُسكرنا أم هزيمة تفيقنا؟ نعم هزيمة أم درمان كانت قاسية جدا، وقلبى مع كل من خاب أملهم وكل من كان يدعو لمصر، ولكن هذه الهزيمة يمكن تعويضها بعد أربعة أعوام، فى حين أن هزيمة سياسية جديدة لشعب مصر قد تزج به فى غياهب حقبة مباركية جديدة لا تقل عن ثلاثين عاما.
مصر فى حاجة لنصر حقيقى يدوم، والكرة الآن فى ملعبنا نحن..
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة