طوال ثلاثة أيام تلقيت الكثير من التعليقات على ما كتبته حول الحرب الصوتية بين مصر والجزائر، والتى سيخسرها الفائز والخاسر. بعض هذه التعليقات غاضب يدعو إلى الحرب وأكثرها ينضم إلى تيار العقل والمنطق، ويرفض تحويل مباراة فى الكرة إلى حرب بين الاشقاء، لم يكن رابح الجزائرى وحده الذى أعلن حبه لمصر لكن كان هناك كثيرون من الجزائر أعربوا عن رفضهم لأى إهانة لمصر أو إساءة لشعبها، عندما ترى هؤلاء تكاد تشعر بدماء اختلطت وذكريات ممتدة وشهداء مشتركين. لكن إذا خرجت إلى باحة الإعلام والفضائيات تهب عليك فورا ريح السموم، ترى نجوم الفضائيات الجزائريين والمصريين يتسابقون فى توجيه الشتائم وكيل الاتهامات ونفى وجود الآخرين. فإذا قرأت الجريدة الجزائرية ظننت أن مصر ليس فيها شىء واحد جيد، وإذا انتقلت إلى بعض الفنانين والرياضيين والمعلقين ستسمع ما يمكن أن تتصوره من شتائم وإهانات للتاريخ والجغرافيا.
وإذا انتقلت إلى شبكة الإنترنت، سوف ترى عشرات المجموعات والجروبات التى تمجد فى مصر أو الجزائر وتلعن الجزائر أو مصر، ولا تعرف متى خرجت هذه المجموعات ولا كيف يمكن أن تستمر، لكنها فى الغالب لن تستمر سوى أيام وتلحق بسابقاتها. وتكشف أغلب هذه المجموعات عن شوفينية وعنصرية غير مبررة، وكان عظمة أى شعب لا تأتى إلا بالفخر والحماسة، بدون هدف سوى الشحن والتسخين. والغريب أن الحرب الفضائية والإلكترونية البينية غطت على كل ما عداها من أحداث، وكانت مصر والجزائر ودعتا مشكلاتهما وأصبحتا بلا بطالة ولا فساد ولا تخلف. مع أنهما فى الهم "شرق".
ويستخسر المرء هذه الدفقات الوطنية التى لو تم توجيهها إلى قضية مفيدة لأصبحنا دولا متقدمة، لكنها تضيع فى معركة يديرها "التراس" ولاعبون معتزلون وسماسرة، ويشارك فيها أحيانا فنانون كبار انجروا إلى الشتائم وتخلوا عن أبسط قواعد الحوار. ومن الصعب أن تعثر على عاقل يقول لهؤلاء وأولئك "عيب".
ويلفت النظر فى هذه "العركة"، أنها تجاوزت الحدث الأصلى، واندمج المشاركون فى هيستيريا من الصراخ، يهدف الفضائيون منها إلى جذب الزبائن، ويصطادون فرائسهم من فائض الاستفزاز وترى مذيعا طويلا عريضا يسأل ضيفه "بيقولوا عليك حمار، وينفعل الزبون صارخا: "دا هما اللى ولاد اللى"، ولا تسمع كلمة مفيدة ولا فائدة، وهى برامج يصعب على كل ذى عقل أن يتحملها، أو حتى يشارك فيها لأنها تعيد وتكرر فى دائرة لا تتوقف. من إعادة الشحن بالبطاريات، التى تغذيها صحف وفضائيات أخرى. ومن الصعب أن تسمع صوتا يتكلم أو شخصا لا يصرخ ولا يلطم ولا يندب.
لم يكتف قراصنة الفضاء بأن يقدموا برامج رياضية لكن بعضهم تحول إلى محلل سياسى عميق ومؤرخ وجغرافى و"وتفاضل وتكامل"، وطالما الكلام ليس عليه جمرك، فلا مانع من تقديم تحاليل تتفوق على معامل أنفلونزا الخنازير. وتجرأ بعض هؤلاء القرداتية ليفتوا فى التاريخ . لدرجة أن اللاعبين أصبحوا مؤرخين، أعلنوا أن مصر لم تقدم للجزائر أى شىء، وفى المقابل يرد "مستأرخ" من مصر لينفى من الأصل وجود الجزائر.
وأصبح التاريخ لعبة فى أيدى جماعة الفضاء الخارجى، الذين تركوا مهنتهم كمعلقين رياضيين وتحولوا إلى منظرين. وإذا التاريخ ينزل الملعب، ويتحول إلى كرة تتقاذفها الأقدام التى فى العقول.