أشفق كثيرا على جموع الشعب المصرى التى تتعرض الآن لحالة إغراق ببضاعة فاسدة يروجها دعاة وطنية مزيفون، وربما تكون هذه حالة نادرة، إذ إن الزيف انتقل من دعاة الوطنية إلى الوطنية نفسها، إذ باتت مزيفة هى الأخرى.
نسمع كلاما ضخما عن كرامة وطنية أهينت إثر تداعيات مباراة الكرة مع الجزائر، ودعوات إلى انتقام يتعدى ساحات الرياضة إلى الاقتصاد والسياسة والثقافة، لقد هب الجميع مذعورين من معسكرى الحكم والمعارضة، ومن دعاة سابقين إلى الوحدة العربية.. على شارع يغلى بفعل حشد إعلامى جاهل ألبس الكرة عمامة السياسة، وجعل من الوصول إلى كأس العالم حطين أو عين جالوت أخرى، وبدلا من كلام عاقل كان ينبغى أن يقال لتهدئة الخواطر ووضع الأمور فى نصابها الصحيح، إذ بالجميع يركبون الموجة ويدخلون بالجماهير المحتقنة فى نفق عبثى مظلم، حيث حراب الأخ ومخارزة تخلع عين شقيقه وربما تخلع عينه ذاتها دون وعى ولا إدراك.
الذين قادوا الحملة من بدايتها للأسف مجموعة من الجهال، لم يقرأوا تاريخا، ولا يدركون ماذا تعنى الجغرافيا ولا كيف ينبغى للسان الواحد والدين الواحد والآمال الواحدة أن تكف يدك عن شقيقك، على افتراض أنه تطاول وتبجح وأهان مقامك، هؤلاء مساكين ينفخون فى نعرات بائدة مثل أسلافهم الذين كان ينبغى أن نتعلم من أخطائهم وليس أن نكررها بحذافيرها.
إذا كنا نهزأ من حرب داحس والغبراء التى استعرت واستمرت أربعين عاما بين عبس وذبيان من أجل سباق خيل، ونهزأ من بكر وتغلب الذين خاضوا حرب إفناء بين أبناء العمومة من أجل ناقة، فماذا أبقينا لهم؟ هم إذن كانوا على حق وليس لنا بعد اليوم أن نسخر منهم، فإذا كانوا فى جاهلية، فنحن نشعل جاهلية أشد وأكثر مرارة، لأن جاهلية القرن الخامس الميلادى يمكن للعاقل أن يلتمس لها عذرا، ولكن كيف لعاقل أن يجد مبررات لجاهليات القرن الواحد والعشرين التى نخوض غمار واحدة منها.
دعاة الوطنية الزائفة يقفزون فوق حقائق أو يغمضون أعينهم عنها، أهمها أن مصر فى لحظات التوهج التاريخى على الدوام كانت أكبر من مساحة المليون كيلومتر التى نعيش على ترابها وأتحدى أى مؤرخ أو مثقف حقيقى أن يدلنى على حقبة تاريخية حافلة بالعزة الوطنية والكرامة للمصريين بينما كانت الدولة المصرية منكفئة وراء حدودها، فكل فترات التوهج فى التاريخ المصرى كان تأثير مصر ونفوذها يتمدد شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، من العصر الفرعونى الذى نباهى به الدنيا وحتى تجربة محمد على.
اسألوا جمال حمدان وحامد ربيع وطارق البشرى وكل أساطين الوطنية الحقيقية .. متى تنهض مصر ومتى ينطفىء إشعاعها لتتأكد لكم حقيقة أن التحريض الجارى ليس ردا على الكرامة، وإنما هو ذاته مس بكرامة مصر وبتاريخها وحضارتها.
وللمفارقة فإن إغلاق معابر غزة وقت العدوان الإسرائيلى الإجرامى عليها قبل 11 شهرا كان باسم هذا النوع الزائف من الوطنية، ومع ذلك فإن الشارع تقبله باستهجان شديد واعتبره تبديدا لدور مصر، فيما كانت الوطنية الحقة تقتضى أن نمد اليد للأشقاء ونخفف مصابهم ونكسر حصارهم، وللمفارقة فإن تركيا باسم الوطنية التركية أيضا قد فعلت ما كان ينبغى أن نفعله نحن، ضاربة بعرض الحائط كونها واحدة من دول الناتو وحليفا استراتيجيا لأمريكا وإسرائيل.
الذين ينفخون فى النار لا يعرفون أن الرئيس الجزائرى الراحل هوارى بومدين حين علم بنية مصر الجادة فى خوض حرب أكتوبر، طلب قائمة بما ينقص من عتاد جيشنا وحاول شراء العتاد من الاتحاد السوفيتى، وحين رأى السوفيت يبالغون فى الأسعار رغبة فى المماطلة وعدم البيع كتب لهم شيكا على بياض، وقال لهم اكتبوا المبلغ الذى تريدون كى يسد الذرائع السوفيتية ويوصل لمصر السلاح فى أسرع وقت.
بينما تشتغل الماكينات الإعلامية فى أبلسة الجزائر حكومة وشعبا وتاريخا، كان شمعون بيريز يرتع فى مصر، يفرش له السجاد الأحمر دون أن يفكر واحد من قبيلة الحشد الإعلامية الجاهلة فى انتقاد وجوده، بل وصل به التبجح حد عرض التوسط بين مصر والجزائر لإخماد هذه العاصفة .. يا إخوتى الذين ينفخون فى النيران.. أليس بينكم رجل رشيد؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة