فى مثل هذه الأيام من شهر نوفمبر سنة 1976 جلس الرائع الأسطورى أمل دنقل وحيدا يغزل بعدة كلمات قصيدة جديدة لم يحسب فى يوم ما أنها ستتحول إلى دستور شعبى، لم تفلح محاولات كافة الأنظمة فى تجاوزه أو تعديله أو حتى الشخبطة عليه، فى مثل هذه الأيام العبثية التى يتصدر المشهد فيها مجموعة من الفنانين قرروا استخدام أزمة الجزائر لإعادة صياغة مفهوم المواطنة، وتغييره من حب الوطن بالإخلاص وإتقان العمل، إلى حب الوطن بالشتيمة والهبل، وتعاملوا مع مصر وكأنها أفيش كل واحد فيهم يريد أن يسبق الآخر باسمه فى المنطقة الأعلى، فى مثل هذه الأيام من 33 سنة كان العظيم أمل دنقل ومعه الكثير من المخلصين يضعون صياغة جديدة لمفهوم المواطنة ومفهوم العداوة.. فخرجت للنور أم القصائد العربية.. "لا تصالح".
فى هوامش "الكتب" و"كراريس" و"كشاكيل" المدرسة وهامش الحرية الذى منحته لنا الدولة فى هيئة فضائيات عبثية غالبا ما نرفع شعارات ونصرخ بكلمات قصائد هى غالبا ثمرات عقول وإبداع آخرين، ورغم ذلك نتطاول عليها ويدفعنا غباؤنا لاستخدامها فى غير محلها، أقول ذلك لأنه وللأسف فى نفس الشهر الذى ظهرت فيه قصيدة أمل دنقل الرائعة "لاتصالح" تجرأ واحد من الفنانين المغمورين ومن بعده مقدم برامج رياضية واستخدموا بعض أبيات وكلمات القصيدة للتعبير عن حالة أزمة مصر- الجزائر، طبعا لست فى حاجة إلى أن أخبرك عن حالة القرف التى أصابتنى وأنا أسمع هؤلاء وهم ينتهكون ميراث أمة ويرددون كلمات القصيدة، وكأنهم مثل ذلك أخبرنا القرآن أنه يحمل أسفارا.
كان الغضب هو الرفيق الأساسى وأنا أتابع ما يحدث لقصيدة أمل دنقل التى تعتبر ومازالت سلاحا يرفعه أبناء هذا الوطن مع كل محاولة تسعى إلى حظيرة التطبيع مع إسرائيل، بالإضافة إلى أنها شكلت معنى آخر لمعانى الوطنية والسعى لاسترداد الحق وعدم التهاون فيما ضاع، دعك من جمال كلامها وحسن رشاقتها وروعة تعبيراتها وانظر إليها مجردة.. ستجدها السلاح الأقوى فى وجه إسرائيل وليس الجزائر بالطبع، ستجدها فى هوامش كتب الطلاب الذى أصابهم حماس السياسة مبكرا، وعلى أسوار المدارس والجامعات، وفى أعمدة الكتاب، وألسنة الخطباء حينما يتعلق الأمر بالحق الذى سرقته تل أبيب.
"لا تصالح" التى أبدعها أمل ولدت مؤثرة وصرخة والدها كانت واضحة فى مواجهة اتفاقيات السلام مع إسرائيل، كانت أقوى من المظاهرات وعلامات الرفض الأخرى لأنها الوحيدة التى مازالت على قيد الحياة تمارس دورها الذى أنجبها أمل دنقل من أجله، البشر الذين رفضوا وقاطعوا بعضهم أخذته الحياة وانفرم فى خلاط الدنيا والمصالح، وبعضهم مات بحسرته وهو ثابت على مبدأه، ولكن وحدها "لا تصالح" مازالت تقاتل حتى الآن ومازالت تعيش حتى الآن فى مصر والجزائر والسودان والسعودية وسوريا وفلسطين كمقاتل رئيسى ومستمر فى معركتنا مع إسرائيل.
وقتها كان لابد من كلمة تاريخية وخالدة فكتب أمل دنقل ما نعيد نحن الآن كتابته فى هوامش الكتب التى تقرأها أو نذاكر فيها أو على جدران الحجرات التى نعيش فيها نفعل ذلك جميعا دون أى اتفاق مسبق، ربما لأن هناك شعورا دفينا يقول لنا إن نفعل ذلك حتى لا ننسى، ولذلك نظل نردد..
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هى أشياء لا تشترى..
هذه الكلمات التى كتبها شاعر الصعيد ربما هى التى تصدت للعبارة الشهيرة التى تقول بأن "الشعر لا يغير شىء" فقط يغير ولا يتغير.."لا تصالح" كسرت ذلك الحاجز لأنها غيرت، ربما تتفق أو تختلف معى ولكنك لن تنكر أن "لا تصالح" وإن لم يكن لها تأثير مادى فهى على الأقل أثرت فى مشاعر الكثيرين، وظلت كالمنبه الذى ظبطه "أمل دنقل" ليذكر الناس كلما أحس بغفلتهم تطول.
كلما تمادت الأنظمة العربية فى علاقتها مع إسرائيل وكلما توطدت علاقة قدم رئيس وزراء الدولة العبرية بمطارات العواصم العربية يعود صوت أمل دنقل وهو يهتف بحنين وقوة..
جئناك كى تحقن الدم..
جئناك. كن -يا أمير- الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ فى جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إننى كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِك!
إن كنت تبحث عن أثر لهذه القصيدة تعالى أقول لك ولا تتهمنى بالجنون، فى الولايات المتحدة بعض المجانين يجرون أبحاثا علمية من أجل تخليد الإنسان، ولكنهم حتى الآن لم يصلوا إلى أى شىء، ولا حتى براعة الفراعنة فى التحنيط، أما فى مصر فقد نجح "أمل دنقل"، وتوصل إلى أحد أسرار تخليد الإنسان حينما كتب قصيدة "لا تصالح" ليبقى بها اسم أمل دنقل حيا.. صدقنى لأنه لا توجد كلمات أقوى من تلك لتبقى الإنسان أو على الأقل اسمه حاضرا فى الأذهان.. اسمع يا سيدى.
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل
لا تصالح
ولو قيل إن التصالح حيلة
إنه الثأرُ
تبهتُ شعلته فى الضلوع..
إذا ما توالت عليها الفصول..
ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)
فوق الجباهِ الذليلة!"
حينما تعود أصداء حواديت الصلح ومفاوضات السلام والمؤتمرات المتغيرة الاسم من أجل استعادة الحق الضائع، فجأة تطل عليك عزيزى المواطن العربى ملامح قسمات وجه أمل دنقل فى الهواء النقى وهى تحمل كلمات قصيدته وتقول ..
لا تصالح
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟
وكيف تصير المليكَ..
على أوجهِ البهجة المستعارة؟
كيف تنظر فى يد من صافحوك..
فلا تبصر الدم..
فى كل كف؟
إن سهمًا أتانى من الخلف..
سوف يجيئك من ألف خلف
فالدم -الآن- صار وسامًا وشارة.
وعندما تظهر بقايا أجساد جنودنا من أسفل رملة سيناء التى شربت حتى ارتوت من دمائهم، وتظهر بين كل خطوة وخطوة مقبرة جماعية جديدة ويطالبون الأمهات الغاضبة بأن تهدأ من أجل السلام وأن تصمت من أجل السلام وأن الحى أبقى من الذى قتل أسيرا حينما ضربوه غدرا من خلف ظهره.. لابد أن نتذكر فورا..
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟"
فى تلك القصيدة التى كتبها أمل دنقل تكررت لفظة "لا تصالح" عشرين مرة فى المقاطع العشرة بواقع مرتين فى كل وصية، عدا الوصية الخامسة التى تكرر فيها ثلاث مرات.
تكرارا لا يعنى إلا شيئا واحدا فقط هو أنه أراد لموقفه الخلود، فأجابه الناس بنعم حينما كرروا ما كتبه أمل دنقل فى منتدياتهم ومظاهراتهم وهتافاتهم أكثر مما فعل أمل دنقل نفسه.. فبقيت لا تصالح رمزا وبقى أمل دنقل حيا.. ولكنه سيتمنى الموت بكل تأكيد حينما يصل إلى قبره خبر ذلك الممثل وهذا المذيع الرياضى الذى وجه كلمات قصيدته الخالد نحو عاصمة أخرى غير تل أبيب.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة