الحوار بين أوروبا والعالم الإسلامى مازال فى مرحلة الطفولة.. المبادرة السويسرية لتحريم بناء المآذن طفولية وساذجة، وتصرفات مسلمى أوروبا ومطالبهم أيضا لا تقل طفولية وسذاجة.
رغم أن كل استطلاعات الرأى كانت توحى برفض الشعب السويسرى لمبادرة حزب الشعب اليمينى لسن قانون لمنع بناء المآذن، فإنى لم أفاجأ إطلاقا حين ظهرت نتيجة الاستفتاء. فلهذا الرفض أكثر من سبب وأكثر من دلالة.
أولا: تعيش أوروبا حالة من الارتباك فى الهوية والبحث عن الذات منذ سنوات، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتى بدا الإسلام كعدو جديد مشترك لدول أوروبا التى لا تربطها سوى المسيحية والمصالح الاقتصادية.
ثانيا: هناك جو ملبد بغيوم سوء الظن والخوف يسود أوروبا منذ أحداث سبتمبر. وقد عجز مسلمو أوروبا عن اتخاذ موقف صريح مناهض للإرهاب، بل حاول بعضهم تبرير ما حدث والاحتفال به، مما أثار شكوك الأوروبيين تجاههم.
ثالثا: حاول قادة الأحزاب الكبيرة وصناع القرار السياسى فى أوروبا الوقوف بجانب المسلمين ولم يستخدموا لغة معادية للإسلام، حتى يتجنبوا أى أحداث عنف بعد الهجمات الإرهابية، فى حين كانت الشعوب مشحونة بالخوف والترقب. وقد أفسح ذلك المجال للأحزاب اليمينية المتطرفة لدق نواقيس الحرب ضد المسلمين لاستقطاب عدد كبير من الأنصار. وقد أدت الأزمة المالية العالمية الأخيرة إلى ارتفاع ملحوظ فى نسب البطالة، وهناك علاقة طردية واضحة بين البطالة ومعاداة الأجانب.
رابعا: استغل المسلمون مبدأ حرية العقيدة الذى ينص عليه القانون فى كل دول أوروبا وراحوا يخططون لبناء مساجد كبيرة فى قلب المدن الأوروبية، بعد أن كانت مساجدهم فى الماضى غرفات صغيرة فى أطراف المدن، وقد جاء التمويل لبناء هذه المساجد فى أغلب الأحيان من منظمات سعودية وهابية، مما زاد من مخاوف الأوروبيين، خاصة و أن 15 من منفذى هجوم سبتمبر كانوا سعوديين.
خامسا: لم يدخل المسلمون فى حوار جدلى مع سكان المدن التى يرغبون فى بناء المساجد بها لشرح وجهة نظرهم، بل اكتفوا بشعارات يصعب على الأوربيين استيعابها مثل أن الإسلام هو دين السلام ويدعو للمحبة واحترام الآخر. وكان المسلمون يرفضون أى انتقاد لعقيدتهم وعلاقتها بالعنف والدعوة للجهاد ضد الكافرين، وكانوا يردون عليها بتشنج.
أى أن كلاً من المسلمين والقادة السياسيين الأوروبيين كانوا يحاولون منع أى انتقاد للإسلام، مما أدى إلى حالة من الاحتقان والامتعاص داخل العديد من الأوروبيين، الذين أوهمتهم أحزاب اليمين المتطرف أن حكوماتهم باعتهم للمسلمين الذين ليسوا سوى عملاء للوهابية، وأن غرضهم الأساسى هو أسلمة أوروبا والسيطرة عليها باسم الجهاد، وهو ما يجهر به بعض الأئمة صراحة من فوق منابرهم فى أوروبا. وإلى جانب ذلك جاءت تصريحات الأخ العقيد معمر القذافى المستفزة، والتى طالب فيها بمحو سويسرا من على خريطة العالم وتقسيمها على جيرانها، وهو تصريح لو وجهه زعيم أوروبى نحو دولة إسلامية لقامت الدنيا بسببه ولم تقعد.
حالة الامتعاص، كما يراها الفيلسوف الألمانى "نيتشه"، منبعها إحساس عميق بعدم العدالة وعدم الفهم من الآخرين. هى حالة تسمم الذات برغبة فى الانتقام لا تتحقق. وتتحول هذه الحالة مع مرور الوقت لحمّى مزمنة تنتظر الانفجار. ووصف "نيتشه" لهذه الحالة ينطبق على موقف الأوروبيين من المسلمين وموقف المسلمين من الأوروبيين منذ قرون. كلاهما يكن للآخر كراهية دفينة وسوء ظن أزلى، وكلاهما يترقب الفرصة من أجل الانتقام. فى حين نتذكر نحن الحروب الصليبية والاستعمار وفلسطين والعراق، يتذكر الأوروبيون الهجوم العثمانى وأحداث نيويورك ولندن ومدريد.
قبل ثمانية أعوام قرر رجل مسلم الخروج من مرحلة الامتعاص إلى مرحلة الانفجار ونسف برجى التجارة فى نيويورك. منذ ذلك اليوم وجميعنا يرقص على طبول بن لادن. كلنا مسلمون وأوروبيون، أصوليون وليبراليون، نطوف حول كعبة سبتمبر ونبحث عن تبريرات وتفسيرات. صحيفة "يولان بوستن" الدنماركية طرحت تفسيرها المستفز وغرست قنبلة فى عمامة النبى. خرجنا بعدها للشوارع وأحرقنا السفارات الغربية لنقول للعالم إننا لسنا إرهابيين. بعدها بشهور اتهم بابا الفاتيكان الإسلام بأنه دين عنيف وغير عقلانى.. رددنا عليه بعنف ولاعقلانية لنثبت خطأ أطروحته.
كسرت الجريدة الدانماركية تابو كبير، حين نشرت الرسوم المسيئة للرسول، وفقدت بذلك عذريتها، كما اعترف محررها الثقافى وصاحب فكرة الرسوم فى حوار أجريته معه فى أغسطس الماضى فى كوبنهاجن. وها هى سويسرا أيضا تفقد عذريتها تجاه الإسلام. دولتان من أكثر دول العالم تسامحا وحيادية أعلنتا رفضهما الواضح للإسلام، فماذا نستنتج من ذلك؟
أرجو ألا نقفز للتفسير الجاهز من أنهم حاقدون على الإسلام ويريدون تدميره إلى آخر الاسطوانة اياها.. لابد من البحث عن تفسيرات أخرى قبل فوات الأوان. أكثر من 17 مليون مسلم يعيشون فى دول أوروبا الغربية وهم بحاجة لأسلوب جديد لمواجهة الكراهية الموجهة للإسلام، واعتمادهم على التمويل السعودى والبروباجندا الإخوانية قادتهم للعزلة وأضرت بهم. ومحاولتهم المستمرة لتكميم أفواه من ينتقدون الإسلام جاءت بعكس ما كانوا يريدون.
قد يندم السويسريون كثيرا لقرارهم بمنع المآذن.. فسويسرا ليست جزيرة منعزلة، وليس لها موارد طبيعية تغنيها عن باقى العالم، ومصادر دخلها هى تجارة المال والسياحة. مليارات الدولارات العربية والإسلامية (وأيضا الوهابية) مودعة بالبنوك السويسرية، ولو فكر عدد بسيط من ملاكها فى سحبها للحقت بسويسرا خسائر طائلة.. و بعض أصحاب الاستثمارات الأجنبية سينظرون بلا شك لقرار سويسرا على أن أنه قرار معادٍ لكل ما هو أجنبى..
ومع ذلك علينا ألا ننسى أنه ليس كل الأوروبيين معادين للإسلام، فمبادرة حزب الشعب قوبلت بانتقادات واسعة من كل أحزاب سويسرا ومن الصحافة الأوروبية، وما أن ظهرت نتيجة الاستفتاء حتى انهالت الصحافة العالمية بوابل من الاتهامات نحو سويسرا وحذرتها من تقويض ديمقراطيتها باسم الديمقراطية.. وأتمنى أن يرد أيضا مسلمو سويسرا ومسلمو العالم أجمع على هذا الاستفتاء بأسلوب آخر غير ردهم على الرسوم الدنماركية.. ليتهم يرون فى المبادرة السويسرية فرصة لمراجعة الذات وفتح أبواب أخرى للحوار مع الغرب: حوار مفتوح مبنى على الصراحة ونقد الذات قبل توجيه أصابع الاتهامات نحو الآخرين.. فقد سئمنا من الردود الجاهزة التى لا تؤدى إلى شىء سوى صب البنزين فوق النيران المستعرة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة