لم أندهش مثل كثيرين بسبب غياب الدولة بشكلها الرسمى الممثل فى رئيس الجمهورية السيد حسنى مبارك أو غيره، عن جنازة الدكتور العظيم مصطفى محمود، ربما لأن الدولة فى الأصل غابت عن هذا المفكر الكبير طوال فترة مرضه، أو لأن الرئيس عودنا أنه لا يقرأ كثيرا ولا تربطه بالمثقفين والكتاب تلك العلاقة التى كانت موجودة فى زمن ناصر والسادات.
أو ربما، وهو الأمر الأكثر قربا من الصواب، أن الرئيس أو رجال حكومته أو رجال حزبه لا يعرفون عن مصطفى محمود سوى أنه ذلك الميدان الشهير فى شارع جامعة الدول العربية الذى شهد أول نصر مرورى فى مصر، حينما أنشأت وزارة الداخلية أمامه إشارة مرورية تعمل بشكل أوتوماتيكى وبها تلفزيون كبير وكاميرا تصور عابرى الخط الأبيض فى زمن الإشارة الحمراء، صحيح أن فخر وزارة الداخلية والحكومة المصرية بالإشارة الأوتوماتيكية لم يدم طويلا بسبب أعطالها المتكررة، ولكنها ظلت علامة مميزة فى الميدان الذى يحمل اسم الرجل الذى لم يكن فقط مفكرا كبيرا أو مثقفا عظيما، بل كان نموذجا حيا للكيفية التى من المفترض أن يندمج بها المثقف فى صفوف الناس، من خلال مشروع خيرى واجتماعى عبقرى اسمه "جمعية الدكتور مصطفى محمود".
وبالمناسبة، لو تجرأت الحكومة المصرية أو الرئيس مبارك بنفسه وطلب من أحد رجاله إحصائية ورقية عن حجم المساعدات التى قدمتها تلك الجمعية لفقراء مصر ومرضاها وشبابها، بالإضافة إلى إحصائية أخرى عن حجم التأثير الفكرى والثقافى لأعمال الدكتور مصطفى محمود العلمية سواء عبر 400 حلقة من برنامجه الشهير "العلم والإيمان" أو مئات الكتب والمقالات فى شتى المجالات.. سيدرك الرئيس مبارك وقتها أن الدكتور مصطفى محمود الذى غفل عن حضور جنازته أو تكريمه بالشكل اللائق ساهم أكثر من حكومة الدكتور نظيف فى إزالة الهموم من على أكتاف الناس وقلوبهم، ومحو الغيوم والصدأ من على عقولهم، ولا يكفى مجرد اعتذار من رئاسة الجمهورية عن عدم حضور الرئيس أو مندوب عنه لجنازة هذا الرجل الذى شيعه الفقراء والمرضى والشباب لإسقاط هذا الجرم الفظيع عن كاهل الدولة ورئيسها.
سيادة الرئيس .. السادة المسئولون .. الدكتور مصطفى محمود لم يكن مجرد جمعية ولا لافتة على مسجد ولا مجموعة من كتب رائعة وعظيمة، بل كان دولة داخل دولتكم نجح بإخلاصه فى التغطية على الكثير من مساوئ حكمكم وطريقة إدارتكم للأمور ونظامكم التعليمى الفاشل ومسح الكثير من الأحزان والأوجاع التى ترسمونها على أجساد المواطنين و تزرعونها فى قلوبهم، دون أن يطلب منكم جنيهاً، ولا صورة فى ميدان عام أو هتاف مزيف فى تلفزيون الحكومة، أو حتى تسقيف مدفوع الأجر كما يحدث فى مؤتمر الحزب الوطنى.
الرحمة إذن للدكتور مصطفى محمود الذى سعى بجهده وعلمه لنشر الرحمة فى العقول والقلوب، والجزاء لهؤلاء الذين غفلوا عن تكريمه وحضور جنازته أو حتى قراءة الفاتحة على روحه.. وهو بالطبع جزاء من جنس العمل.. فاللهم احفظنا منه!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة