يبدو لى أن التعليمات التى صدرت لكوادر الحزب الوطنى خلال انعقاد مؤتمره السادس، جاءت حاسمة وقاطعة ووفق خطة شاملة يلتزم بها الجميع على النحو التالى:
(لا تتورطوا فى الرد على المعارضة حول أجندة المؤتمر)
(لا تعليق على بورصة الترشيحات الوهمية للرئاسة)
(إبراز إنجازات الإصلاح السياسى باعتبارها ملفا تم إنجازه نهائيا)
(لا حديث إلا عن المشكلات التى تناقشها أوراق المؤتمر السنوى)
هكذا مضت الأمور فى ظنى، فقيادات الحزب أرادت عن عمد تغيير (المزاج السياسى العام فى البلد)، وخططت لإعادة تشكيل هذا المزاج حسب الأولويات الاقتصادية والاجتماعية، وليس حسب الأولويات السياسية الإصلاحية، فكل أوراق المؤتمر وجلسات النقاش العامة والخاصة، أدارت ظهرها للتفاصيل السياسية، وقفزت مباشرة إلى قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمشروعات الخدمية، والعمل على إغراء قطاعات جديدة من الناس بمزيد من الوعود والآمال، كتلك الوعود التى تلقاها الفلاحون فى خطاب الرئيس أو فى الأفكار التى طرحتها أوراق المؤتمر.
الحزب تحرك كأن ملف الإصلاح السياسى لم يعد فيه جديد، وأن كل ما تطرحه المعارضة على صفحات الجرائد لا يعدو كونه (نضالا صحفيا وتليفزيونيا) لا يعبر عن حراك سياسى حقيقى فى المجتمع، أو عن خطوات ثابتة تنتهجها الأحزاب الشرعية فى مصر، ومن ثم لا ينبغى الالتفات إليه أو البناء عليه بأى حال.
ومن هنا كانت الخطة أن يتم تغيير مسار الحوار بين الناس من الحديث عن (ترشيحات الانتخابات الرئاسية) ،أو (المادة 77 فى الدستور)، أو (قانون الطوارئ)، أو (حرية تكوين الأحزاب) ،أو (ملفات حقوق الإنسان)، إلى حوار حول قضايا الزراعة والرى والفلاحين ،ومعاشات الضمان الاجتماعى، وقانون التأمين الصحى، وسبل توفير الأمن الغذائى، وملفات الخدمات الحكومية للمواطنين.
هذا المسار ظهر بوضوح فى جميع أوراق المؤتمر، وفى الحضور الكثيف للوزراء خلال جلسات النقاش مع أعضاء المؤتمر العام من مختلف المحافظات، وظهر أيضا فى المقاطعات التى جرت لخطاب الرئيس فى جلسة السبت الماضى، حيث بدا أن قيادات الحزب فى المحافظات، تطرح على الهواء مباشرة وفى حضور رئيس الحزب ورئيس الجمهورية قضايا تتعلق بالخدمات وبالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، فكل الذين قاطعوا خطاب الرئيس ،طرحوا قضايا من عينة مشكلات الفلاحين مع الحكومة، أو كادر المعلمين فى الأزهر، أو تفعيل قانون الإدارة المحلية، أو قضايا تتعلق بتوصيل المرافق من مياه وكهرباء للمناطق المحرومة.
لا أقول هنا إن هذه المقاطعات كانت مدبرة عمدا، ولكننى أزعم أن الأجواء العامة التى فرضها الحوار داخل الحزب وخارجه، جعلت من هذه القضايا الحياتية أساس النقاش ومحور الاهتمام داخل المؤتمر، وهو ما صادف الرغبة السياسية لقيادات الوطنى بتغيير المزاج السياسى العام فى البلد، بظهور هذه الأولويات على أجندة الإعلام صحفيا وتليفزيونيا، وجذب الحوار المجتمعى العام من الأجندة التى تطرحها المعارضة حول (الرئاسة والتوريث ومايحكمشى!) إلى حوار فى التفاصيل اليومية حول (الماء والخبز والمعاشات الاستثنائية).
أما الهجوم الذى شنه أمين التنظيم أحمد عز على جماعة الإخوان المسلمين ،فهو لا يخرج عن هذا التصور فى تقديرى، ففى الوقت الذى أراد فيه الحزب أن يقطع الطريق على أصوات المعارضة السياسية والحزبية فى الخارج، ويحول بينها وبين التشويش على المؤتمر، وخطته الأساسية فى تغيير المزاج العام لدى الناس، كان عز ينقل التشويش إلى ساحة أخرى (سهلة الاصطياد والتجريح وبلا عواقب كبيرة) وهى ساحة الإخوان المسلمين، ووفرت الأخطاء الكبيرة التى ارتكبتها الجماعة فى الفترة الماضية فرصة نادرة لأحمد عز، ليعقد المقارنة التى تساعد على تمرير خطة الحزب، لاحظ مثلا أن أمين التنظيم ركز فى هجومه على إنشاء الميليشيات ورفع الأحذية من قبل الجماعة، مقابل وصفه للحزب بأنه الأكثر حرصا على مصالح الناس، والأكثر سعيا لبذل الجهد فى توفير الخدمات للمواطنين.
عز أسهب فى النقد على نحو يجعل من الإخوان الخصم الوحيد والمخيف للحزب وللدولة وللمجتمع.. فقال نصا:
(.. التيارات المتطرفة لا تمارس سياسة بصورة أكثر وداً.. تعريف الود لا يتضمن تشكيل ميليشيات بين طلبة الجامعات.. لا تمارس سياسة بصورة أكثر إيجابية.. لا تعرف الانسحاب من جلسات البرلمان.. أو الاعتصام خارج أسوار البرلمان.. من يراعى مصلحة الوطن لا يفضل المسلم غير المصرى.. على كل مصرى غير مسلم.. يخطئ من يؤمن يوماً أن الديمقراطية آتية على أكتاف أعضاء مكتب الإرشاد.. تعريف الديمقراطية.. مواطن واحد.. صوت واحد.. ديمقراطية مكتب الإرشاد.. مواطن واحد.. صوت واحد.. لمرة واحدة فقط.. وبعدها.. يختفى صوتك إلى الأبد.. هذه التيارات قد لا تفرض توجهاً اقتصادياً بعينه.. تفرض ما هو أكثر من ذلك.. زياً موحداً للرجال والنساء.. مصدراً واحداً للمعلومات.. ديناً واحداً للقيادات.. من يخالفها لا يصبح معارضاً سياسياً.. يصبح معارضاً دينياً لمن يحكم بأمر الله.. ومن ذا الذى يقدر أن يعارض الحاكم بأمر الله ؟!).
أحمد عز، وعن وعى وقصد كامل، لم يضع الحزب الوطنى وجها لوجه أمام كل تيارات المعارضة فى مصر، فالأحزاب السياسية ليست على قلب رجل واحد، ودائرة التربيطات والتوازنات تتسع قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة، كما أن أجندة الإصلاح السياسى الذى تطالب به بعض هذه التيارات، ستدفع الحزب الوطنى إلى جدل كبير غير مرغوب فيه خلال المؤتمر، ومن ثم أراد عز عمدا المرور العارض والناعم على هذه المعارضة، وفضل التركيز على عقد المقارنات مع جماعة الإخوان المسلمين وحدها، وكأنه يريد التأكيد على أنه لا بديل سوى (الأسوأ)، ولا مفر من الحزب الوطنى إلا إلى التطرف، بينما الحزب ورجاله ساهرون على خدمة الناس ،ومنحازون إلى رفع رواتب الموظفين فى الحكومة، وتقديم الخدمات والدفاع عن التحديث، حسب ما قاله أحمد عز.
مرة أخرى هنا، المعارضة السياسية الحزبية ليست على خريطة النقاش، وقضايا الإصلاح ليست ضمن الأولويات، أما النموذج المواجه للحزب فهو النموذج (الأسوأ) و(المخيف) داخل جماعة الإخوان المسلمين، الذين لا يناقشون القوانين بل يعارضونها أوتوماتيكيا، ولا سبيل لهم فى المعارضة إلا بالاعتصام عند بوابة البرلمان.
هذه الهجمة الساخنة أرادت نقل المعركة إلى عقر دار هذا الخصم السياسى، ليتحرك للدفاع عن نفسه أمام الحزب الوطنى، وإذا حاول الإخوان الدفاع عن أنفسهم، فإنهم سيجاهدون للتخلص من وصمة (المعارضة المراهقة) التى ألصقها بهم أمين التنظيم، وسيبارزون أحمد عز فى الحديث عن خدمة الناس واقتراح القوانين التى تساعد على تذليل الصعاب ورفع مستوى المعيشة، وسيقولون إنهم لم يعارضوا قانونا كان فى مصلحة الناس، أو يعرقلوا مشروعا حكوميا يخفف العبء عن أهل قرية، أو ينجز خدمة للمناطق المحرومة، أو يعطل خيرا للمزارعين والعمال.
حسنا، هذا بالضبط هو الحوار الذى يريده الحزب الآن، الحوار فى تفاصيل الحياة اليومية وحياة الناس وقضايا الخدمة العامة، باعتبارها أولوية سابقة على أى تطور إصلاحى سياسى جديد.
حسنا، هذا بالضبط الهدف الأعلى للحزب الوطنى، بأن يكون الحوار فقط حول هذه القضايا التنموية والخدمية ولا شىء آخر، لأن الحديث عن تداول السلطة سيجلب التطرف والتصويت الأوتوماتيكى بتعليمات من مكتب الإرشاد، حسب مقارنات عز.
إن مضت الأمور على هذا النحو، وإن ظلت المعارضة على شكلها الكارتونى الحالى، فسنقول للحزب الوطنى: مبروك.. المؤتمر نجح.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة