د. بليغ حمدى

أعظم اختراع بعد الكهرباء!

الجمعة، 06 نوفمبر 2009 07:17 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا أفطن لحسن ظنى أم لسوئه اقتران انعقاد فعاليات المؤتمر السادس للحزب الوطنى الديمقراطى وإصابتى بوجع بأسنانى ألزمنى الفراش قهراً وقسراً فترة انعقاده. ولأن الوجع فرض على البقاء بالمنزل وعدم الذهاب إلى طلابى ، كان لزاماً على شغل الوقت المهدر بعمل مثمر، ولم أجد شيئاً مثمراً ساعتها إلا متابعة المؤتمر بدءاً من الافتتاح حتى نهايته.

وملحوظاتى الأولية تفيد بأنه مؤتمر منظم وأنيق، وموضوعاته ومساجلاته جذابة لطلاب العلوم السياسية والاقتصاد والتجارة وأقسام علم الاجتماع بجامعاتنا البعيدة عن التصنيف العالمى، ولا شك أن منظمى المؤتمر قد استفادوا بدرجة كبيرة من ورش العمل والمؤتمرات التى تقيمها الهيئات والوكالات الأجنبية بمصر.

ووسط هذا الزخم الهائل ـ الذى شاهدته عبر التليفزيون ـ من الأوراق والمطبوعات والمقاعد والكلمات والرؤى والبدل الأكثر أناقة وشياكة، والأحذية الإيطالية اللامعة، لم يرع انتباهى سوى رجل يرتدى جلباباً نطلق عليه فى صعيدنا " شريعي" . وأنا لم أعرف صفته الحزبية التى دعته للحضور، ولا طبيعة عمله السياسى التى أهلته لإجراء مقابلة تليفزيونية بقناة المحور التى أكدت أنها تنقل وقائع المؤتمر حصرياً، وليتها قامت بتقرير نسبة المشاهدة لهذا المؤتمر.

المهم أن هذا الرجل البسيط بدا وكأنه فى حصة محفوظات كما كنا نسميها، أخذ الرجل يتحدث منفرداً ربع الساعة دون أن تستوقفه المذيعة الشابة التى اهتمت بأناقتها أكثر من ثقافتها السياسية. أخذ هذا الرجل يسمع ما حفظه طيلة أيام سوابق وكأنه فى امتحان مادة الأناشيد، وخبرتى بالإلقاء بحكم التخصص الأكاديمى تفيد أنه لم يع حرفاً مما قاله، بدليل أنه لم يعط المذيعة فرصة لإجراء حوار معه.

وعجباً مما قاله هذا الرجل البسيط؛ مجموعة من المعلومات والأرقام والبيانات والتحركات السياسية والتوجهات الحزبية والتطلعات والفكر الجديد والعبور الذى تم، والإنجازات الحزبية التى صارت واقعاً ملموساً. وأشهد الله أنى ساعتها شعرت بأنى أستمع إلى بيان للحزب الشيوعى بالاتحاد السوفيتى، أو حديث لماركس أو فريدريك إنجلز، أرقام وبيانات ومعلومات وأسماء وقرارات وأوامر وتحركات، وكأنه القطار الذى حكت لى قصته جدتى بأنه ـ أى القطار ـ لا يقف إلا عند هذا الرجل.

مثل هذا الرجل تم تلقينه بمعلومات حتى يوصلها إلى الناس، وأنا مؤمن أنه لو استقل قطاره بالعودة إلى موطنه وتأمل ما فعله لوجد نفسه خارج أرضه التى كانت يوما كالعرض، وزراعته التى كانت غير متسرطنة، وفلاحته التى كان لا يهجرها الفلاحون ، والخير الذى كانت مصر تتباهى به مقابل نفط الخليج.فما علاقة هذا الرجل بالصكوك الشعبية، أو فكرة إنشاء الجهاز المصرى لإدارة أصول القطاع العام ، وإنشاء صندوق للأجيال القادمة يحفظ حقوقها بحيث تخصص له نسبة 5% من رؤوس أموال الشركات التى تطرح فى إطار برنامج إدارة أصول قطاع الأعمال العام.

ولكن لكى تكتمل الصورة لا بد من وجود مثل هذا الرجل، يقف ويتحدث ويشارك، ليس المهم أن يعى ما يقوله، المهم ظهوره فقط، مثلا اللاعب المغمور الذى أحرز زميله الموهوب هدفاً فجرى ذلك المغمور نحو الكاميرا فألصق وجهه بها.

وأنا منتظر ـ إن شاء الله ـ أن أسترد عافيتى نهاية هذا الأسبوع حتى ألتقى بطلابى وزملائى كى أسألهم بلهفة عن أصداء المؤتمر السادس للحزب الحاكم، رغم أنهم سيكونون مشغولين بمباراة مصر والجزائر فى تصفيات كأس العالم، لكننى أفترض أن بعضاً منهم اهتم بوقائع ونتائج المؤتمر. فمنهم من كان ينتظر حلاً لمشكلة ازدحام القطارات التى إما تصطدم أو تجىء متأخرة بالساعات، ومنهم من يبحث عن حل لمعضلة الصفر الجامعى، وثالث مهتم بمعرفة تعليق وتأجيل الدراسة، ورابع بإجراءات الحكومة تجاه أنفلونزا الخنازير التى بدأت تحصد الأرواح، وخامس عن هؤلاء المعلمين الذين يهرولون ويسرعون فى تدريس المقررات الدراسية مع الاعتذار لكلمة تدريس، وكأنهم مأمورون بالشائعات الشعبية أكثر من قرارات وزارة التربية والتعليم ، وسادس عن سر ارتفاع تركيب عدادات الكهرباء وارتباطها بمساحة المكان.

لقد سبق وأكدت فى مقالى " من أجلك أنت ..عايز أعيش" على قضايا بعينها تهم ذلك المواطن وهو المقصود بـ "أنت" ، وكنت مستشرفاً للواقع بأن المؤتمر لا ولن يتطرق لها، وهذا الاستشراف لم يأت من فراغ، ولا نبوة أدعيها ـ معاذ الله ـ فمنذ أكثر من شهرين تمت استشارتى كأحد أعضاء الحزب الوطنى ـ سابقاً ـ فى محاور المؤتمر السادس، وطبقاً لطبيعة التخصص كان من نصيبى ملف التعليم، وحينما نظرت فى الملف وجدته مجموعة من الأسئلة المرتبطة بمرحلة رياض الأطفال، واستعدادات المدارس للجودة والاعتماد، وكمية المدارس الفنية بالريف والحضر، وكثافة الطلاب بالفصول، والتغذية المقدمة لهؤلاء الطلاب.

وإذ فاجأنا المؤتمر بشعار " من أجلك أنت" ، فهل وصل بنا الاهتمام بالمواطن لدرجة أننا نفكر فى مرحلة رياض الأطفال، أم أننا قد يئسنا من التعليم الجامعى وأرقامه الصفرية فلجأنا لإنقاذ التعليم بدءاً من الطفل الذى غالباً لم يذهب إلى الروضة والحضانة خوفاً من نزلات البرد. وأى جودة تلك التى نتحدث عنها فى مدارسنا، وهى غير مؤهلة من الناحيتين التعليمية والصحية.وهل فى ظل تعدد مصطلحات المعلم من دائم وبعقد وبعقد مميز وبالحصة ومساعد معلم وكأننا فى سوق وليس مدرسة، سنذهب بتعليمنا نحو الجودة؟ ناهيك عن القائمين بعملية الاعتماد المدرسى والجودة، فهم أنفسهم يحتاجون إلى تقييم شامل ومستمر ومتابعة لأفكارهم التربوية.


وأخيراً هناك ملحوظة قد يراها الكثيرون بعيدة عن موضوع ومضمون المقال والحدث، ولكن فكر قليلاً فيها، فالوحدة الحزبية التى كنت عضواً بها أقوم بعمل أمانة التثقيف فيها كان ابن رئيسها وابنا أخيه أعضاء بها، ليس إلى هذا الحد، بل كان ترتيبهم فى الانتخابات القاعدة للوحدات الحزبية الثانى والثالث والرابع بالترتيب، وأعمارهم لا تتجاوز العشرين،وأحدهم طالب بالتربية الرياضية، والثانى يحمل مؤهلاً متوسطاً، والثالث غير متعلم.

وحينما سألت عن ذلك باعتبارى عضواً جديداً لم يخبرنى أحد من أعضاء هيئة المكتب، بل تعجبت من رجل يبيع الفاكهة على باب مقر الوحدة الحزبية حينما قال لى إنهم يفهمون فى السياسة كما أنهم تربوا فى وسط سياسى وحزبى، الأعجب من ذلك قوله التاريخى :إن الحزب الوطنى (وهو يقصد بالطبع والقطع والتأكيد تلك الوحدة الحزبية التى يقطن بجوارها ويأخذ خطاً من كهرباء الوحدة لإنارة فاكهته) هو أعظم اختراع بعد الكهرباء.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة