توقف هنا لحظة ودعنى أخبرك أن الحديث عن هذا الرجل الذى كتب النشيد الشعبى للشارع المصرى، ووضع دستور الحياة النفسية للمصريين فى عدة كلمات ساحرة قال فيها: (منين بيجى الشجن.. من اختلاف الزمن، ومنين بيجى الهوى.. من ائتلاف الهوى، ومنين بيجى السواد.. من الطمع والعناد، ومنين بيجى الرضا.. من الإيمان بالقضا).. الكتابة عن هذا الرجل صاحب الكلمات السابقة صعبة، بل قد تبدو مستحيلة، تشبه المعاناة الممتعة، وتصيبك بالأوجاع اللذيذة، وتلقى فى قلبك الكثير من الرعب خوفا من ألا تمنح هذا الرائع قدره المستحق من الروعة، وكيف ستطاوعك الكلمات للكتابة عن رجل تسير الكلمات نفسها وتتشكل وتتراقص حسب إيقاعه وتبعا لأمره؟
هنا تكمن المشكلة.. الكلمات تأتمر بأوامر سيد حجاب وتسير وفقا لخططه، ورسمه اللغوى البارع، وإلا بماذا تفسر لى كيف استطاعت الكلمات التى نتداولها فى أحاديثنا العابرة فى السوق ومحلات الحلاقة والمطاعم أن تشكل هذه الملحمة الغنائية الساحرة التى كنا ومازلنا نسمعها قبل ليالى الحلمية وبعدها، كيف جمع سيد حجاب الكلمات التى نتحدث بها فى الشارع وأمرها أن تتخذ منحنى يخضع لإيقاعات عمار الشريعى، لتخرج تلك الأغنية التى تسير فى بحور ذكرياتنا ونؤرخ بها للحظات من الزمن الذى عشناه على وجه الأرض.. نسمع كلمات التتر الشهير فتعود معها الكثير من الذكريات بجانب رعشة خفيفة وجميلة تداعب القلب وشرايينه وتزرع ذلك الحزن المخلوط بالفرحة داخل نفوسنا وتذكرنا بأشياء طالما اجتهدنا لنتذكره.. هذه هى الكلمات لو مش مصدقنى استدع لحن تتر ليالى الحلمية الشهير واقرأ وجرب: (من انكسار الروح فى دوح الوطن، ييجى احتضار الشوق فى سجن البدن، من اختمار الحلم ييجى النهار، يعود غريب الدار لأهل وسكن، ليه يا زمان ما سبتناش أبرياء، وواخدنا ليه فى طريق ما منوش رجوع، أقسى همومنا يفجر السخرية، وأصفى ضحكة تتوه فى بحر الدموع).
صدقتنى..؟ سيد حجاب لم ينقش هذه الكلمات من فراغ، لأنه ليس من ناس اليومين دول بياع كلام، بل هو أحد جراحى الكلمة القلائل الذين برعوا فى شق جسد هذا الوطن بأرضه وناسه وتشريحه بدقة الخبراء، ولهفة الأطباء، فهو أول من اكتشف بيت الداء للمشاكل التى نعيشها وخاطب كل مصرى قائلا: (يا مصرى ليه دنياك لخابيط الحل بسيط حبة تخطيط)، وهو أبرع من نصح حينما قال: (دنياك سكك حافظ على مسلكك وامسك فى نفسك يا العلل تمسكك وتقع فى خية تملكك.. تهلكك.. أهلك يا تهلك دنتا بالناس تكون).
خذ أجازة من الأشياء جمعيها ولا تذهب إلى طبيب نفسى، ولا تشاهد هؤلاء المجعلصين الذين يظهرون على شاشة التلفزيون لتحليل واقع شعبى لا يعشوه أبدا فقط خذ نفسك واذهب إلى أقرب كلمة تجدها فى طريقة لسيد حجاب، أى قصيدة اجلس أمامها واقرأ وستدرك فورا روعة الإحساس الذى أحدثك عنه.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة