أشرف عبد الشافى

فن الهوى

السبت، 12 ديسمبر 2009 06:55 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
القلب يدق بقوة وأحواله تتغير فجأة، كان هانئاً قانعاً قبل أن تعبره تلك النسائم فيهتز ويفقد توازنه وهيبته، ماذا حدث له؟! يسأل نفسه، ثم سريعا ينظر إلى "العين" يعاتبها لأنها السبب فى كل ما جرى!!، بينما "العين" التى تعلمتْ السهر هى الأخرى ترفض الاتهام وتؤكد له أنه هو ـ وليس أحداً غيره ـ الذى حرّضها على النظر فوقع ما وقع وجرى ما جرى!!.. وهكذا تدور رُحى معركة ممتعة يلخصها الشاعر:

يقول قلبى لطرفى إن بكى جزعا
: تبكى وأنت الذى حملّتنى الوجعا؟!
فقال طرفى له فيما يعاتبه:
بل أنت حملتنى الآمال والطمعا

ولخصها آخر:
فيا طَرف قد حَذرتك النظرة التى
خَلسِت (سرقت) فما راقبتْ نهياً ولا زجرا
ويا قلب قد أرداك طرفى مرة
فويحك لمّ طاوعته مرة أخرى؟!

وبين الاثنين ـ العين والقلب ـ يقف إنسان ضعيف يتعذب ولا يجد نفعا من وراء هذا الصراع، فالليل أصبح نهاراً.. والنهار أصبح طويلاً بدون محبوبته.. والحياة لا تبدو حياة بدونها.. وحيرة وأمنيات تنقل روحه من هنا إلى هناك، فيصرخ فيهما:
عَاتبتُ قلبى لمّا
رأيت جسمى نَحيلا
فألزم القلب طرفى
وقال كنت الرسولا
فقال طرفى لقلبى
بل كنت أنت الدليلا
فقلت كفا جميعا
تركتمانى قتيلا !!

وصرخ شاعر آخر وقد هزل جسده هو الآخر:
يا من يرى سقمى يزيد
وعلتى أعيت طبيبى
لا تعجبن فهكذا
تجنى العيون على القلوب!!

ومثلهما يقف شاعر آخر متعباً مجهدا وهو يشاهد صراع العين والقلب فيناجى ربه كى ينقذه منهما:
إن لُمتُ قلبى قال لى العين أبصرتْ
وإن لُمتُ عينى قالت الذنب للقلب!
فعينى وقلبى قد تقاسما دمى
فيا رب كن عونا على العين والقلب

ما هذه المتعة وما تلك الروعة التى جسدها الشعر العربى؟!، أحدثكم عن كتاب رائق وجميل هو "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" للإمام والفقيه المجدد ابن قيم الجوزية صاحب "زاد المعاد ومدارج السالكين".

واللغة فى الكتاب سهلة خفيفة الظل على غير العادة فى كتب التراث، ومع ذلك لم يترك ابن القيم ـ وهو العّلامة والشيخ الجليل ـ باباً دون التوقف أمامه من الناحية الفقهية، فبعد أن يخصص هذا الباب للحب من النظرة الأولى ويجمع أقوال الشعراء وطرائف العرب، يتوقف أمام أقوال طائفة من العلماء الكبار قالت بتحريم ذلك الحب، فالنظر إلى من لا يحل لك حرام ويفتح باب الفتنة والشهوات و"العين تزنى" أليس كذلك؟!

ويرد الإمام على هؤلاء بآراء طائفة أخرى من ـ العلماء الكبار أيضاً ـ لم تجد فى ذلك ذنباً ولا جرماً، وقالت تلك الطائفة: "بيننا وبينكم الكتاب والسنة وأقوال أئمة الإسلام والمعقول الصحيح، أما الكتاب فقوله تعالى "أو لم ينظروا فى ملكوت السموات والأرض"، وما خلق الله من شىء إلا كان بقدر، وهذا يعم جميع ما خلق سبحانه، فما الذى أخرج من عمومه الوجه المليح وهو من أحسن ما خلق؟!

ورؤية الجمال البديع تُنطق ألسنة الناظرين بقولهم: سبحان الله رب العالمين وتبارك الله أحسن الخالقين، والله تعالى لم يخلق هذه المحاسن عبثا وإنما أظهرها ليستدل الناظر إليها على قدرته ووحدانيته وبديع صنعه.

وأما السُنة فهناك الحديث المشهور"النظر إلى الوجه المليح عبادة"، وفى حديث آخر: اطلبوا الخير من حسان الوجوه.

وخطب رجل امرأة فاستشار النبى فى نكاحها فقال: هل نظرت إليها؟! فقال: لا، قال اذهب فانظر إليها.
ولو كان النظر حراما لما أباح له أن ينظر فإنه لا يأمن الفتنة.

وأما أقوال الأئمة فحكى السمعانى أن الشافعى رضى الله عنه كتب إليه رجل فى رقعة:
سلْ المفتى المكّى هل فى تزاور .. ونظرة مشتاق الفؤاد جناح؟
فأجابه الشافعى:
معاذ إله العرش أن يُذهب التُقى.. تلاصق أكباد بهن جراح.

وذكر الحاكم فى مناقب الشافعى رضى الله عنه من شعره:
يقولون لا تنظر وتلك بلية
ألا كل ذى عينين لا بد ناظر
وليس اكتحال العين بالعين ريبة
إذا عف فيما بين الضمائر..

ولا سلطان على القلوب و"سبحان مصرف القلوب" كما قال النبى صلى الله عليه وسلم. وقد نعشق ونحب من الصوت حين تحمل النبرات شفرات ورسائل إلى القلب فينتفض ويتنقل بين جوانبنا بحثاً عن سر المتعة الرائقة التى تقول للحياة: آن الآوان كى تطيبى لنا.

وروضة ابن القيم قاصرة على عشاق الروح العارفين بالحب ومعناه، ولا تشمل هؤلاء الشهوانيين من عشاق اللذة والمتعة المادية، ويخصص الإمام الفقيه باباً لهذا المعنى، فالحب نظرة ورسالة روح تنقلها نسائم إلى روح، فيتحد الجسدان ويمتزجا دون رغبات تعقبها دائماً كراهية، يقول ابن القيم: إن الجماع الحرام يفسد الحب ولا بد أن تنتهى المحبة بينهما إلى المعاداة والتباغض.

ويسرد قصصا وحكايات وطرائف فى هذا الشأن ـ لا يسمح العصر"التكفيرى" بنقلها حرفيا ـ فعليكم بالكتاب لتعيشوا متعة الحب وفن الهوى مع فقيه وعلاّمة عظيم يحتاج صفحات كى نكتب عنه.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة