لا أستطيع أن أخفى إعجابى بالنموذج التركى فى معالجة القضايا الداخلية والخارجية بقيادة الثنائى "جول - أردوغان".. هذا النموذج المدهش نحن فى مصر والعالم العربى والإسلامى فى أمس الحاجة إلى تعميمه، وتسويقه بل وتطويره ليكون هو السائد فى المرحلة القادمة، خاصة فى ظل الظروف التى يتعرض فيها العرب والمسلمون لحملات تشويه منظمة، بعضها مبرر، وأغلبها مصطنع يكتنفه الغموض.
لقد ادهشنى ذكاء وبساطة واعتدال الرئيس التركى "المنتخب" عبد الله جول (59 عاماً) خلال لقاء تليفزيونى أجرته معه إحدى الفضائيات العربية مؤخراً.. خلال الحوار أعلن جول عن رغبته فى الاتجاه بقوة نحو العالم العربى، وعدم تبنى أى مواقف تضر الدول العربية أو الإسلامية، مع الاحتفاظ بالعمل من أجل تحقيق حلم الأتراك فى الانضمام للاتحاد الأوروبى، كما عارض استخدام القوة لمنع إيران من امتلاك التكنولوجيا النووية.. جول أستاذ الاقتصاد ذو الميول الإسلامية ينتمى لعائلة متدينة ترجع إلى أصول أرمينية، رغم ما بين الأرمن والأتراك من اتهامات لا تخفى على أحد.. ومع ذلك فقد سمحت التحولات الديمقراطية المتلاحقة التى عاشتها تركيا خلال العقود الأخيرة بأن يصل شخص بمواصفات جول إلى منصب رئيس لجمهورية أتاتورك التى أسسها، على أطلال الخلافة الإسلامية البائدة، فى أعقاب الحرب العالمية الأولى.
جول وصديقه رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء "المنتخب" أيضاً، نجحا فى تأسيس مدرسة جديدة فى السياسة التركية والإقليمية.. هذه المدرسة تتبنى أغلب مبادئ الإمبراطورية العثمانية الغابرة، لكن وفق منظور معاصر يتناسب مع روح الألفية الثالثة.. ومنذ أن وصلا لمنصبيهما الرفيعين عبر صناديق الانتخاب، وهما يتفانيان فى العمل لاستعادة عرش تركيا المفقود فى الشرق الأوسط عبر خطوات حثيثة وعمل دؤوب، من خلال إعداد وتهيئة الجبهة الداخلية للتجاوب مع أفكارهما وتوجهاتهما القومية، تجلى ذلك أثناء الغزو الأمريكى للعراق 2003، حيث رفض البرلمان السماح باستخدام قوات التحالف الأراضى التركية لاحتلال العراق، مع الحرص على عدم الدخول فى عداء مع الولايات المتحدة.
بمجرد وصولهما إلى السلطة بدآ العمل فوراً لإنهاء الخصومة التاريخية بين الدولة التركية وكافة المظاهر الإسلامية، وأوجدا حلولاً سحرية لمعضلة التناقض بين الإسلام والتقدم.
قطعا شوطاً طويلاً لتحقيق مصالحة وطنية شاملة تقوم على أساس العدالة والمساواة بين جميع مكونات الأمة التركية، وأصرا على أن يكون القانون هو الملاذ الأخير لحسم القضايا الخلافية.
بعد أن اطمئنوا على استقرار الجبهة الداخلية، التفتوا مباشرة إلى محيطهم الإقليمى، فأصبحوا بوابة لحل الصراع العربى الإسرائيلى ومدوا أيديهما للجار السورى، وتحولت أنقرة إلى قناة سرية وعلنية للمفاوضات السورية الإسرائيلية، كما احتفظا بود عميق مع قادة حركة حماس.
أظهرت تركيا لإسرائيل العين الحمراء فى الوقت المناسب، فاتخذت موقفاً شعبياً ورسمياً متميزاً أثناء العدوان الإسرائيلى على غزة، اشتبك بسببه أردوغان مع الرئيس الإسرائيلى بيريز فى مؤتمر دافوس يناير 2009، ألغوا مناورات "نسر الأناضول" الجوية حتى لا تشارك فيها إسرائيل، وحذروها من رد قاسٍ فى حال مهاجمة إيران عبر الأجواء التركية.
فتحا أبواب تركيا على مصرعيها أمام العالم العربى وتغلغلوا بقوة فى مجال التجارة والثقافة وأصبح لهم تواجد ملموس فى مختلف العواصم العربية من المنامة إلى الدار البيضاء مروراً بالقاهرة والخرطوم.
دعما حضور بلادهما فى العالم الإسلامى، ولم يتوقفا كثيراً أمام الخلافات المذهبية، فرغم كونها معقلاً للسنة، إلا أن هذا لم يحول دون تعاونها وتعاطفها مع إيران الشيعية، فانعكس ذلك على تولى شخصية تركية قيادة منظمة المؤتمر الإسلامى.
لفتا انتباه الغرب بنموذجهما الإسلامى المعتدل الذى لا يعادى الغرب ولا يتصادم مع الآخر، وأعلا من قيم الإسلام السامية التى تدعو للتفاهم والتعايش السلمى مع غير المسلمين.
من هنا يأتى إعجابى بهذا النموذج المستنير، فى ظل مناخ سياسى مضطرب نحياه حالياً بين مد تركى وجذر مصرى.. وأجدنى أطلق لخيالى العنان للتحليق متأملاً هذا الكيان الصاعد بقوة الصاروخ وبخطوات محسوبة وخطى واثقة تدعو للاحترام أحياناً وللغيرة أحياناً كثيرة، ثم أتساءل لماذا لا ندرس بتأنٍ تفاصيل التجربة التركية ونستخلص منها العبر والدروس، خاصة أن بيننا وبينهم أوجه تشابه عديدة فى الظروف والأوضاع، بدلاً من أن نرتضى بدور المتفرج!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة