إياك أن تصدق أن مسألة توريث جمال مبارك سهلة ومجرد شكة دبوس سيقول بعدها الشعب المصرى "أى" ثم يواصل حياته بشكل طبيعى، الأمر معقد كثيرا ومتعلق بكثير من الخيوط ليست كلها فى يد واحدة، انظر للطريقة التى يتحرك بها رجال الحزب الوطنى، وللطريقة التى يلعب بها رجال القصر الرئاسى، وللشكل الذى يكونه رجال الحكومة والهيئات التنفيذية وستدرك أن البلد مثل العروسة اللعبة تتقاذفها أكثر من يد، فى ظل رقابة رئاسية تفرض بسطوة بقائها الطويل شخصيتها على الأحدث.. وعلى الصورة ككل، واسمحوا لى أن أعيد عليكم نشر بعض السطور ربما تكون مفيدة – رغم طولها الواضح- فى توضيح معالم الصورة فى ظل التحركات الغريبة والتصريحات الأغرب التى تصدر عن الدولة أو رجالها وستستمر فى الصدور طوال الشهور الانتخابية القادمة، واسمحوا لى أعرفكم بنوع جديد من العاملين فى حقل الدولة يحمل لقب.. القادمون من الخلف.
القادمون من الخلف.. لو كنت من محبى كرة القدم فأنت تدرك تماما معنى هذا التعبير، أو على الأقل سمعت به طبلة أذنك فى واحدة من صرخات معلقينا الكبار، عموما دعنى لا أرهق ذاكرتك .. القادمون من الخلف هو تعبير يطلقه السادة محللو كرة القدم ومشجعوها على لاعبى وسط الملعب، والمدافعين حينما يتقدمون لإحراز الأهداف فى غفلة من الجميع فقط لأنهم.. فى منطقة الظل.
وبمقدار خطورة «القادمون من الخلف» فى ملعب كرة القدم، ينشط القادمون من الخلف فى الملعب السياسى.. هم الأخطر، هم الأكثر قدرة على التبرير والتمرير وصناعة وتظبيط ما يتمناه من يتصدر الصورة، لذلك يبذل الرئيس - أى رئيس- أو أى متطلع للرئاسة جهدا فى البحث عنهم.. عن هؤلاء الرجال الذين يحملون اسمه، أغلبهم وأهمهم يبقى قابعا فى الظل تماما ويسدد أهدافه بدقة وعناية دون أن يشعر به أحد، وبعضهم موجود فقط للاستهلاك الزمنى، يمكن استخدامه فى المناورة وتنفيذ بعض الخطط قصيرة الأجل، أو فى عمليات التضحية.. وارجع إلى تاريخ الوزراء والمسئولين الذى تم الاستغناء عنهم لتدرك حقيقة مفهوم كبش الفداء فى السياسة، عموما يتنوع الرجال وتتنوع وظائفهم ومكانتهم، ولكن تبقى عدة صفات تحكم تواجدهم أهمها، الإخلاص وفى المرتبة نفسها يبقى الولاء أيضا، التاريخ المصرى الحديث وحقبة عبد الناصر على وجه الدقة ربما تشرح وتوضح كثيرا مفهوم رجال السلطة بكل كواليسه وكل تنوعاته أيضا.
الآن نحن نعيش عصر القادمون من الخلف، تلك المعركة الهادئة على مساحات النفوذ ومناطق القوى ومفتاح صنع القرار فى مصر بين ما تم الاتفاق مؤخرا على تسميتهم الحرس القديم والحرس الجديد.. الحرس القديم تلك المجموعة التى حملت لواء البداية منذ أن جاء الرئيس مبارك إلى الحكم كمال الشاذلى ويوسف والى وصفوت الشريف وفتحى سرور وزكريا عزمى، أولئك المخضرمون الذين حفظ الناس فى الشارع صورهم عن ظهر قلب، ووضوعهم فى خانة الأساطير إما خوفا من نفوذهم، أو احتراما لقدرتهم على التطور والبقاء بالقوة نفسها رغم تغير الظروف، بين هؤلاء والحرس الجديد الذى يتقدمه على الدين هلال وأحمد عز ومحمد كمال ومحمود محيى الدين ورشيد محمد رشيد وأنس الفقى وبقية رجال لجنة السياسات يمكنك أن تجد حالة من الشد والجذب التى تحدث فى هدوء وتتوقف وتشتعل دون أن يكون لها صدى مسموع أو مفضوح فى بعض الأحيان.
والفرق بين رجال الحرس القديم ورجال الحرس الجديد كبير، ولكنه وللمفاجأة دائما ما يكون لصالح الشخوص الأقدم، هم الأكثر نضجا وهم الأكثر ذكاء وهدوءاً، وأثبتت تجربة الأيام أنهم بخططهم وصحفييهم كانوا الأكثر تأثيرا والأكثر رهبة فى الشارع المصرى، وربما تفسر لك حالة الصحف القومية برؤساء تحريرها الجدد طبيعية الفرق بين قوة الحرس الجديد وقوة ما اصطلح على تسميته بالحرس القديم.
أنت لا تحتاج الآن أكثر من لحظات هدوء وأنت تقرأ الأسماء، لكى تدرك الفروق بين المجموعتين، الغريب أن رجال الحرسين سواء أكانوا القديم أو الجديد جاءوا من الأمكنة نفسها وأحيانا بالخلفية نفسها .. الحرس القديم مثلا لديهم خلفية عسكرية ذات نكهة مخابراتية، وطعم قانونى، أما رجال الحرس الجديد فتجمعهم خلفية اقتصادية تجارية بمستويات مختلفة.
ثمة فروق أخرى بين الحرسين يمكنك ملاحظتها حينما تقرر البحث فى حجم استفادة الدولة أو السلطة من كلاهما، بالنسبة للحرس القديم يتضح للعيان أن الدولة استفادت من رجاله بقدر ما استفادوا هم منها، أما رجال الحرس الجديد فهم حتى الأن يستفيدون من الدولة دون أن تستفيد هى منهم حتى ولو بالقدر نفسه، وإذا وضعت أمامك إمبراطور الحديد أحمد عز ورجل مثل رشيد أو غيرهم من رجال الأعمال المشاركين فى الحرس الجديد ستكتشف فورا أنك أمام شخوص تسحب من رصيد الدولة السياسى بسبب الشبهات الاحتكارية فى نشاطهم التجارى، حتى على مستوى الأخطاء يمكنك أن تكتشف بسهولة أن حجم ما ارتكبه رجال الحرس الجديد فى هذه الفترة الذين صعدوا فيها إلى أضواء السلطة يساوى أضعاف ما ارتكبه رجال الحرس القديم على طول حياتهم فى السلطة، ربما يكون لعامل السن والخبرة سبب مباشر فى ذلك، أو ربما لأن الناس أصبحت أكثر وعيا من ذى قبل، أو أن رجال الحرس القديم كانوا أكثر حياء وحينما تراودهم خططهم على فعل الشرور بالناس كانوا يفعلون ذلك فى الضلمة وليس بقرارات مذاعة على الهواء مباشرة، أو قد يكون السبب الأرجح فى أن شباب الحرس الجديد أغلبهم رجال أعمال ومقدار التضخم فى أعمالهم أوضح مما تخفيه الأيدى عن الأعين.
عموما فى الفترة الماضية اعتدنا أن نسمع من أطراف مختلفة سواء أكانت داخل السلطة أو ضمن صفوف المعارضة عن صراع شرس بين مايسمى بالحرس القديم والحرس الجديد، صراع يتحكم فى مقدرات البلد ومستقبلها، صحيح أن الدولة تنفى وجود هذا الصراع، ولكن سرعة وتوالى الأحداث داخل الحزب الوطنى وفى مؤتمراته السنوية المختلفة التى تشهد تطورا ملحوظا فى وضعية رجال الحرس الجديد، جعلت من الواضح أن الصراع الدائر بين الطرفين خاص بمناطق صنع القرار سواء أكان ذلك الصراع على مساحات النفوذ والقرار فى الحزب الوطنى أو الدولة بشكل أعم، وحتى لو كانت الكلمة الأخيرة فى أيدى أخرى خارج المجموعتين، لا يمكن أن نتجاهل أبدا تواجدهم كقوى مؤثرة فى القرارات الصادرة أو على الأقل طريقة تنفيذها.
فى علوم اللغة والسياسة لا يوجد تعريف واضح لموضوع اتخاذ القرار، فعلى الرغم من أهميته وارتباطه بالعلوم الاجتماعية والإدارة العامة، والسياسة، والاجتماع، وعلم النفس الاجتماعى إلاّ أن الجهود التى بذلها أهل الخبرة والاختصاص فى توضيح مفهوم القرار أو تعريفه لم تعطنا التعريف الجامع والمناسب، وإذا لجئنا للتعريف البسيط فهو:«اختيار إجراء معين لمواجهة مشكلة ما»، وبقدر ما فشل العلم فى منحنا تعريف واضح وصريح لمسألة صناعة القرار أو القرار نفسه، بقدر ما نجح فى منحنا تعريف واضح لصناع القرار، خاصة فى دولة مثل مصر تنتمى لدول العالم الثالث.. هم مجموعة يعتمدون على ما يحملون من أعذار وحجج واهية وعقيمة تصور لهم الأمور عكس ما هو مطلوب ومستحسن، لم يتركوا لغيرهم إلا الشكليات والهامشيات، صنعوا من أنفسهم آلهة لا تقبل النقد أو التشكيك ودول ضعيفة، اللطيف أنهم غالبا ما يطرحون دلائل كثيرة للتأكيد على صحة اختيارهم لأنفسهم كصناع للقرار، فهم يرون الآخرين ومهما تكن مستوياتهم ليسوا إلا أدوات منفذة لا يحق لها المشاركة فى صناعة القرار ولا حتى الاعتراض عليه.. وهم يرون أيضا أن صور الأشياء عندهم أوضح من غيرهم، نظراً للموقع المتميز الذى شغلوه والمعلومات الواسعة المتوافرة لديهم دون سواهم، وأن استشارة الآخرين يقلل من منزلتهم وشأنهم، وعامل إضاعة للوقت-ويقتنعون أن السرية عامل حاسم فى نجاح القرار وفشله، فليس من التعقل كشف جميع الأوراق والنوايا لأى جهة كانت قبل إعلانها، لأن ذلك يدمر عامل المفاجأة.
دعك من الكلام النظرى فأنت لست فى حاجة إلى طبيب نفسى أو خبير اجتماعى ليحلل لك نفسية أهل السلطة وخصوصا فى مصر، اتفقنا منذ البداية على أن اتخاذ القرار فى شكله النهائى داخل الدول النامية يبقى فى يد شخص واحد فقط هو الرئيس، ولكن مسألة صناعة القرار نفسها موزعة بين الحرس القديم والحرس الجديد مع بعض التشابكات على حسب نوع القرار، فيما يخص صناعة القرار الاقتصادى فالأمر الواضح أنه ملك خاص لمجموعة الحرس الجديد على اعتبار أنها فى الأصل مجموعة رجال أعمال ، أما بالنسبة للقرار الأمنى، فهو فى أيدى الحرس القديم بنسبة كبيرة، إذا كنا نتكلم عن أمن الدولة القومى وعلاقتها الإستراتيجية، أما فيما يخص المناوشات البسيطة مع المعارضة والمظاهرات والعصابات وغيره فالأمر ملك للواء حبيب العادلى وهو خارج التصنيف وبعيدا عن حسبة الحرس القديم او الجديد.
أما بالنسبة للقرار الإعلامى فهو مازال فى يد رجال الحرس القديم طالما يتقدمهم السيد صفوت الشريف مهما حاول أنس الفقى أن يفعل وسواء أصدر وثيقة أو حتى عشر سيبقى صفوت الشريف هو المتحكم لأنه هو من صنع تلك المعادلة الإعلامية وهو القادر على حل رموزها، هذا لا ينفى التطورات الاستعراضية التى أحدثها رجال الحرس الجديد فى الشكل الإعلامى، ولكنهم حتى الآن غير قادرين على السيطرة أو التحكم فى المضمون أو اتخاذ قرار إغلاق أو فتح الباب على البحرى، كما أن اختياراتهم الصحفية جاءت لتدمر جانبا كبيرا من قدرتهم على صناعة القرار الإعلامى فى ظل حالة الهشاشة التى يعيش فيها رجال الإعلام التابعين للحرس الجديد.
عموما الصراع مستمر مع احتمالية أن يعمل أحد رجال الطرفين مع الآخر فى ظل تشابك المصالح، وفى ظل عدم صفاء الجو من غيوم المعارضة والاحتقان الشعبى، وقد يكون الأمر كله مجرد خطوة يسعى من خلالها الحرس القديم لتمهيد الطريق أمام القادمين الجدد، فى إطار صفقة لا تخلو من تبادل المنافع، ولا شىء أكيد فيها سوى أن المصريين هم الطرف الوحيد الذى سيخرج من المولد بلا حمص!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة