فى عام 1789 والفرنسيون يشقون طريقهم إلى أبواب القاهرة، لا يقف أمامهم مملوك أو حرفوش، وقف رجل يلبس البياض يخطب فى الناس: أنا المهدى المنتظر، اتبعونى تنجوا، لا الفرنساوية ولا غيرهم يمكن أن ينالوا منكم إذا تبعتمونى، وسرعان ما تجمع حوله الناس الخائفون الباحثون عن القشة وسط الموج الهادر، الفرنساوية قادمون بسلاح جديد يقتل من على البعد بينما لا يملك الحرافيش سوى عيالهم وهلاهيلهم، طمأنهم المهدى المزعوم واعتبرهم جميعا أتباعه الذين لا يصيبهم ضرر مهما كان مصدره، وصدقه الناس وساروا وراءه وفى أول مواجهة مع الفرنسيين تساقطوا كالعصافير برصاص جنود بونابرت المدربين، وفى مقدمتهم المهدى المزعوم.
القصة نفسها تتكرر على أيامنا، وبدلا من أن يظهر المهدى المزعوم الذى يخطب فى الناس مستغلا خوفهم، يخلق الناس المهدى أو المخلص على مزاجهم ووفق تصوراتهم، وحال العامة والحرافيش أيام الحملة الفرنسية على مصر لا يختلف عن حال العامة والحرافيش على الفيس بوك ومقاهى وسط البلد وسلالم نقابة الصحفيين، وفى برامج التوك شو، هو الخوف نفسه يسيطر على النفوس، والبحث الدائم عن المخلص، القادر على رفع الظلم عنهم، ومنحهم الحياة الكريمة الجميلة كما يتصورونها فى خيالهم.
الناس أيام الحملة الفرنسية صدقوا أن المهدى المزعوم سيمنحهم قوة خارقة فى مواجهة الغزاة وسلاحهم الفتاك، والناس على أيامنا يعتقدون خطأ أن عالما مرموقا مثل الدكتور محمد البرادعى أو سياسيا مرموقا مثل عمرو موسى يمكنه حل مشكلات مصر الداخلية والخارجية بضربة واحدة، الفقراء من أعداء وزير التضامن وشركة المصريين لتوزيع الخبز يحلمون أن يمارس الدكتور البرادعى أو عمرو موسى مهاراته الخارقة لتنتهى نهائيا طوابير العيش، والمتقاتلون بالسنج والمطاوى فى سوهاج على أنبوبة البوتاجاز يعتقدون أن البرادعى وموسى يستطيعان توفير أنابيب البوتاجاز لكل بيت فى قرى ساقلتة وكوم العرب، هكذا فى لمح البصر. ورافضوا التطبيع أو إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل يعتقدون أن البرادعى وموسى يستطيعان إلغاء معاهدة كامب ديفيد وشن الحرب الكلامية من "صوت العرب" مرة أخرى تحت شعار "سنلقى بإسرائيل فى البحر"، حتى لو انضربنا قبل أن نطلق أول رصاصة، حتى لو توقفت الحياة تماما فى البلد إرضاء لنزعة انفعالية، دفعنا العرب العاربة والمستعربة إليها منذ عقود، حتى أصبحت لصيقة بنا.
هكذا نحن.. كنا وما زلنا أسرى ثقافة المخلص الذى يأتى ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا وظلما وفسادا، ومن طول انتظارنا لهذا المخلص الذى لا يأتى على مقاس تصوراتنا، اخترعناه، وحملناه كل أحلامنا وخطايانا، وأولها دورنا نحن وواجبنا تجاه أنفسنا.
لا أحد يسأل إذا جاء المخلص الذى يملأ الأرض عدلا أى يحولها إلى جنة بمفرده، ماذا سيكون دور الناس الذين تعودوا على النار والظلم طويلا؟ هل سيعتادون على الوضع الجديد فى الجنة؟ هل سيكون لهم دور أصلا؟ أم أن المخلص الذى يستطيع تغيير الأوضاع بهذه المشيئة المتعالية لن يكون محتاجا للناس أصلا، وبالتالى سيهمشهم من جديد ويستعبدهم من جديد، ويعيد خلق صورة الديكتاتور المستبد؟
لا يسأل العامة والحرافيش من مريدى المخلص والمهدى والعدرا المتجلية على قباب كنائسنا عن دورهم، لأنهم غير موجودين أصلا فى حسبان الساسة وولاة الأمور، ولأنهم قبلوا بأن يكونوا غير موجودين حسب مشيئة هؤلاء الساسة الذين لم يتركوا لهم سوى مساحات من الخيال العاجز عن التغيير الحقيقى ولوحات الخط العربى عن " الصبر" يعلقها الموظفون فى المصالح الحكومية، ويعلقها الآباء الباحثون عن السلطة والاستبداد، فى حجرات الاستقبال.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة