أمطرتنا سماء الفضائيات العربية بوابل من البرامج المنوعة أو بالأحرى (الفنية) التى ترعى أصحاب المواهب وتسعى إلى صناعة نجوم الغناء.. وربما جعلتنا هذه الظاهرة نكتشف أن دعاة الغناء والطرب أكثر قوة من دعاة الفكر والأدب، وأن صانعى الإيقاع أكثر نفوذاً من صانعى الإبداع!!
لكن الملفت والمثير للدهشة وربما للحزن والأسى، أن المرحلة التى تمر بها الأمة لا تحتاج إلى الترفيه والغناء بقدر ما تحتاج إلى الكد والعناء، إنها تحتاج إلى من يعزف على أوتار القلوب المجروحة والمكلومة فى فلسطين والعراق بل وعلى امتداد الوطن المثقل بتبعات صنعها بيده، واللاهث وراء متغيرات صنعها له الآخرون.
وربما تحيلنا هذه الظاهرة "الغنائية" إلى ما هو أكبر من حجمها وأعظم من قدرها، إنها تحيلنا إلى واقعنا الأدبى والعلمى والمعرفى والبحثى، والوقوف عنده بتأنى والنظر إليه بتروى، وعلى ما يبدو – وليست تلك سوداوية أو تشاؤم - أننا اكتفينا بالوقوف عند تخوم أمجاد الماضى نبكى أو نغنى عليها ولا نسترجعها أو نغنيها ونصل ما انقطع منها.
فاستعادة أمجاد الماضى رهن بفهم الحاضر واستشراف المستقبل، وبقدر ما يكون للأمة من معارف وعلوم وإبداع يكون لها من دور ومنجز حضارى، فالحضارة حضور بوعى والرجعية رجوع بلا سعى.
فى الناس قوم أضاعوا مجد أولهم ما فى الحضارة والعلم لهم أرب، فالعلم والحضارة ثنائية جدلية لم يعد العقل البشرى يجهد نفسه لإيجاد دلائل ارتباطهما، وقد ذكر ابن خلدون فى مقدمته فصلاً بعنوان "فى أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة"، وهو فى ذات الوقت يذكر فصلاً آخر بعنوان "فى أن عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل فى النعيم"، ويؤكد فى هذا الفصل على أن من موجبات الفناء استغراق الناس فى الترف يقول "وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء ..".
ولسنا هنا من دعاة الانغلاق ومنع الترف ولكنها دعوة للموازنة، بل هى دعوة تحذير إلى خطورة المرحلة التى نمر بها والتى يجب أن نتسلح فيها بالعلم والأدب والبحث العلمى، وقديماً سأل أحدهم المأمون "أيحسن بنا طلب العلم والأدب ؟" قال: "والله لأن أموت طالباً للأدب خير لى أن أعيش قانعاً بالجهل" قال: "فإلى متى يحسن بى ذلك؟" قال: "ما حسنت الحياة بك".
والاهتمام بالغناء والطرب قديم وجد حتى فى وقت ازدهار الحضارة ورقيها، يقول شيخنا الجاحظ "ووجدنا لكل دهر دولة للمغنين يحملون الغناء عنهم ويطارحون به فتيان زمانهم وجوارى عصرهم".
والغريب أن الجاحظ سماها "دولة المغنين" ولو عاش فى زماننا لأطلق عليها "إمبراطورية المغنين" ففضاء الصورة مفتوح بالساعات لهذه الإمبراطورية وأدوات السمع مشرعة لأصوات امتلأت بها الساحة وغصت بها الآذان.. ولهذا صعد هؤلاء إلى أعلى السلم الاجتماعى وباتوا يتصدرون المشهد الإعلامى بكل تجلياته.
أما "دولة الأدب والعلم والبحث" فقد انحصرت وربما صارت "دويلة" أو "عزبة" صغيرة بتعبير الريف المصرى، وانزوت فى دائرة النسيان أسماء وأعلام منحوا الفكر الإنسانى عطاءهم وقصروا حياتهم على الدرس والبحث والتقصى، وليس أدل على ذلك من الإهمال الإعلامى والرسمى الواضح لوفاة الدكتور مصطفى محمود، ومن قبله الدكتور عبد الوهاب المسيرى، ومن قبلهما الدكتور جمال حمدان.. وغيرهم كثير ممن أثروا حياتنا العلمية والفكرية والأدبية بروائع نتاجهم.
وربما أفضى ذلك الإهمال المقصود أو غير المقصود إلى نوع من تبدل منظومة القيم واختلالها عندما تحول "النموذج" و"المثل" و"القدوة"، فبعد أن كان احتفاء القبيلة بشعرائها والأمة بعلمائها سمة لازمة، أصبح الاحتفاء والرعاية بمن يملكون القدرة على "تغيير الصوت" بدلاً من الذين يملكون القدرة على إطلاق "صوت التغيير".
إنها مفارقة تدعو للتوقف ومزيد من الرصد، ففى الوقت الذى تكتظ فيه جامعاتنا ومعاهدنا البحثية بمئات بل آلاف الباحثين الذين يحتاجون إلى من يحتضن أفكارهم ورؤاهم ويبحثون دون جدوى عمن يمدهم بالتمويل أو بالتشجيع أو حتى بالنصح، نجد الأيدى تمتد إلى أصحاب المواهب "الفنية والغنائية" تغدق عليهم بسخاء وتزايد عليهم فى المنح والعطاء!!
وكم أحس بكثير من المرارة والحسرة عندما أطالع فى الصحف أو المجلات أرقاماً فلكية يتقاضاها نجوم الطرب والفن والرياضة، اللهم لا حسد ولا ضغينة، فى وقت نرى فيه الكثير من مبدعينا وعلمائنا يقتاتون من أوراق بحوثهم فتاتاً، ونرى شهاداتهم تسبح فى فضاء الجدران الصماء، وكتبهم تتراص على امتداد الأرفف الجامدة، وأفكارهم تحلق فى سماء النسيان وربما الحرمان!
وإمعاناً فى المقارنة والمفارقة سنجد أن حجم ما ينفق على بعض الأفلام السينمائية وبعض "الكليبات" الغنائية بأجور نجومها ونفقات إعدادها يساوى بل يفوق حجم ما ينفق على البحث العلمى فى بلادنا العربية، وهذا ما تقوله الأرقام والإحصاءات لا الخواطر والانطباعات فحجم الإنفاق على البحث العلمى فى الدول العربية لا يتعدى 0,5 % من الناتج المحلى الإجمالى.
وبعيداً عن لغة الأرقام ودلالاتها علينا أن نتساءل - وهو تساؤل مشروع – ماذا أعددنا للغد وأين هو موقع المثقف والأديب والمبدع والعالم فى خريطة المستقبل إذا كان ثمة خريطة؟ هل ينتظر المبدع العربى حتفه محتضناً أوراقه ودفاتره أو يموت مختنقاً بتسرب غاز كما حدث مع العلامة جمال حمدان؟ أم عليه أن يبحث بعيداً عن مرافئ تبحث عنه وتحتضنه خارج حدود الوطن؟
وفى أثناء الإجابة عن هذه التساؤلات، علينا أن نواجه الذات وأن نوجهها قبل أن نفتح ملف التآمر ونرميها بكل آفاتنا وما يحدث لنا، ونحن وإن كنا نؤمن بنظرية التآمر لكننا نؤمن فى ذات الوقت أنه كلما ضعفت مناعة الجسم من الداخل كان من السهل على الفيروسات أن تنهشه وتعربد فيه.
إننا مطالبون الآن أكثر من أى وقت مضى باحتضان العلماء والأدباء والباحثين، مطالبون أن نفتح وبقوة نافذة الإبداع بل أبواب الإبداع على مصراعيه وأن نلحق بالركب لا بالغناء والكليب بل بثمرات العقول ونتاج القرائح.
•باحث وإعلامى